الجمعة، 16 سبتمبر 2011

العلاقات العربية التركية فى الماضى

       أولا : مدخل تاريخى لبداية  نشأة العلاقات العربية التركية [1]
 ** يمثل الترك السلالة الرئيسية لجموع البدو الرحل الذين انتشروا فى إقليم الطاى وإقليم الإستبس فى آسيا الوسطى ، وقد اشتهر الترك بين جيرانهم بالقوة الجسدية والقسوة والجسارة المشوبة بالعنف ، حتى ان بعض الباحثين ـ مثل " طومسون " يقولون ان لفظ الترك معناه " القوة والبأس " والغالب ان هذا اللفظ كان اسما لبيت من البيوت الحاكمة ، بمعني انه تعبير عن ظاهرة سياسية اكثر منه تعبير عن ظاهرة عرقية عنصرية . أما بلاد الترك فقد أطلق عليها اسم " تركستان " وقد عرف ياقوت الحموى تركستان بأنها " اسم جامع لجميع بلاد الترك " ومن الواضح ان تركستان كلمة فارسية تعنى " بلاد الترك " . وكانت الديانة الغالبة على الترك حتى القرن السادس الميلادى  الديانة البوذية السائدة فى شرق القارة الآسيوية ولكن احتكاكهم بالفرس أدى إلى تأثرهم بجوانب من الحضارة الفارسية ، فتسربت إليهم العقيدة الزرادشية ، وان ظلت هذه العقيدة محدودة الانتشار بين الترك لعدم اهتمام أهلها بأمر الدعوة لها . هذا بالإضافة إلى بعض الديانات الأخرى التى وجدت منفذا لنفسها بين الترك ، ومن هذه الديانات المسيحية والمانوية وقد استهدفت الديانة المانوية التوفيق بين الزرادشتية والمسيحية والبوذية مما جعلها تصادف قبولا واسع الانتشار بين الترك فى تلك المرحلة السابقة على وصول الإسلام إليهم . وقد شجع ذلك بعض المانويين على الفرار بعقيدتهم من فارس إلى بلاد ما وراء النهر ، حيث توافر لهم قدر من حرية العبادة ، فعاشوا جنبا إلى جنب مع البوذيين والمسحيين النساطرة . هذا وان ظلت الزرداشتية ديانة الطبقة الحاكمة فى تلك البلاد حتى وصول الإسلام .
** وبصفة عامة فإن أول ما نسمعه فى التاريخ عن هؤلاء هو انهم أقاموا لأنفسهم فى القرن السادس للميلاد دولة امتدت من حدود الصين شرقا إلى حدود الدولتين الفارسية والبيزنطية ( دولة الروم ) غربا . وامتازت حكومة هذه الدولة عن غيرها من حكومات الشعوب البدوية بأنها كانت تحت إمرة أسرة لا تحت إمرة فرد . وفى ذلك الدور مد الترك سيادتهم على أجزاء من بلاد ما وراء النهر ( نهر جيحون ) بمعنى ان حدود بلاد الترك فى العهد الساسانى ( 226م – 637م ) تبدأ شمالى هذا النهر ولعل هذا هو الذى جعل الجغرافيين المسلمين يجعلون إقليم ما وراء النهر ( وهو الإقليم الواقع بين نهرى جيحون وسيحون ) لا يدخل ضمن إقليم تركستان لأنهم قصدوا تركستان الموطن الأصلي للترك لا البلاد التى غزوها وإنساحوا فيها . ومعنى هذا ان الوطن التركى انقسم عندئذ إلى قسمين :
v   قسم يقع شرقى بلاد ما وراء النهر ويمتد حتى حدود الصين شرقا وسهوب روسيا شمالا ، وقد ينبسط بلاد القوقاز وحوض نهر الفولجا وهذا القسم أطلق على قبائله اسم " طوقوز ( أغور ) وهو الاسم الذى سار يطلق فيما بعد على الترك الغربيين .
v   وقسم غربى يشمل المناطق الزراعية الخصبة بين نهرى جيحون وسيحون ، أي يشمل بلاد ما وراء النهر . واشتهر من قبائل القسم الغرب التركسن الذين تلقب شيوخهم بالخانية فى القرن السابع للميلاد ومنهم قبائل المغول والتتار .
** ولاشك فى ان توسع الترك فى القرن السادس للميلاد و إقامة دولة كبيرة لهم غربا عبر إقليم الإستبس فى آسيا الوسطى كانت له نتائج له نتائج ضخمة بالنسبة لجيرانهم الجدد على حدودهم الغربية وخاصة البيزنطيين والفرس وقد ظهر ذلك فى :
v   غزو الترك لشبة جزيرة القرم فى أواخر القرن السادس الميلادى حتى وصلوا إلى أبواب مدينة خرسون ، ولكن البيزنطيين عادوا واستردوا منهم القرم حوالى سنة 591م .
v   لقد استفز توسع الترك فى الاتجاه الغربى البيزنطيين والفرس معا وخاصتا الفرس الذين كانوا اشد إحساسا بالخطر التركى بعد ان لامس الترك حدود دولتهم لا فى آسيا الوسطى فحسب بل غربى بحر قزوين أيضا مما دعاهم إلى تحصين بلادهم شرقى بحر قزوين لدفع خطر الترك فأقاموا أسوار دربند شروان بالإضافة إلى سور آخر لحماية جرجان ولكن هذا السور لم يمنع الترك من الاستيلاء على هذه الولاية لذلك أقام كسرى أنوشروان سور على الحدود بين جرجان وطبرستان .  وفى أثناء هذا الصراع مع الفرس استطاع خانات الترك فى القرن السادس للميلاد من النجاح فى توحيد آسيا الوسطى بأجمعها تحت سيطرتهم وصار الأمل يحدوهم فى القضاء على قوة دولة الساسانيين التى اعترضت سبيل توسعهم غربا ولذلك سعوا للدخول فى حلف مع البيزنطيين ضد دولة الساسانيين ولكن ضعف الدولة البيزنطية عندئذ حال دون ذلك .
** وكان لظهور الإسلام فى صورة قوة كبرى فى القرن السابع للميلاد آثره فى إحداث تغيرات ضخمة فى موازين القوى والشرق والغرب جميعا . ذلك ان نجاح حركة الفتوح الإسلامية العربية ، والسرعة المذهلة التى تمت بها هذه الحركة على حساب القوى الكبرى المعاصرة ـ وبخاصة دولتي الفرس والروم ـ وإنتشار القبائل العربية تبعا لذلك شرقا وغربا ، وما ترتب على ذلك من نتائج سياسية وحضارية ....كل ذلك كان له آثره فى تغير خريطة العالم وإدخال تغييرات عميقة الجذور على ملامح المجتمع وصورته المألوفة فى ذلك العصر .  وفى ذلك تلك الأحداث كان من المتعذر ان تظل العلاقات بين العرب وجيرانهم الترك هادئة طالما ان حركة الفتوح العربية الإسلامية لم تتوقف ولم تصل إلى نهايتها وكان من مظاهر ذلك ما يلى :ـ
v   أخذ العرب يقومون بشن هجمات على " سبر غور " هؤلاء الجيران الذين غلبة عليهم الوثنية منذ وقت مبكر بهدف إشاعة الفرقة بين قبائلهم وزعمائهم وضربهم بعضهم ببعض . ومن ذلك ما تتردد فى المصادر من انه عندما غزا العرب خرسان سنة 22هـ (643م ) استنجد يزدجرد بخاقان ملك الترك كما استنجد بملك السغد وبملك الصين . ولكن العرب اتجهوا إلى مرو الروذ فأنهزم يزدجرد وعبر النهر و أقام ببلاد الترك " فلم يزل مقيما زمن عمره كله " وكان ان تتابعت غزوات العرب فى بلاد الترك فى ذلك الدور المبكر ، الأمر الذى افزع الترك والخزر فاجمعوا على مهاجمة العرب وانتهزوا الفرص المناسبة لمهاجمة العرب فى فتحاتهم الجديدة .
والواقع ان الترك شكلوا عقبة لا يستهان بها فى وجه توسع العرب فى المشرق فى تلك المرحلة الأولى من مراحل حركة الفتوح  الإسلامية . 
v   ومن مظاهر العداء بين العرب والترك فى ذلك الدور ، حرص الترك على إيواء الخارجين على الخلافة الأموية . ومن أمثلة ذلك ما حدث سنة 83ه (702م ) عندما اشتد القتال بين الحجاج ابن يوسف و عبدالرحمن بن محمد عند الكوفة ، إذ اتجه الأخير ـ بعد هزيمته ـ إلى سجستان ، فاستقبله رتبيل ملك الترك فى بلاده ، حيث " أنزله وأكرمة وعظمة " وكان ناس كثير من المهزومين من أصحاب عبد الرحمن ـ من القادة الذين لم يقبلوا أمان الحجاج ونصبوا له العداء فى كل موطن قد تبعوا عبد الرحمن .
v   وقد حرص العرب فى الفترة التى اتخذوا فيها خرسان ثغرا على الحدود بين دولتهم والترك ـ وهى الفترة الممتدة تقريبا بين سنتى 31،86هـ ( 651 ـ 705م ) على إقامة الحصون فى أطراف خراسان. وقامت هذه الحصون فى أطراف خرسان . وقامت هذه الحصون بمهمة مزدوجة ، دفاعية وهجومية . وكانت هجمات العرب على بلاد الترك غالبا فى فصل الصيف تجنبا لبرودة الشتاء وقسوته فى تلك الأصقاع .
ولم يلبث ان ألف العرب التوغل فى تركستان وغزوها بين حين وآخر حتى ان بعض الباحثين يتخذون سنة 86هـ ( 705م ) بداية الفتح لتلك البلاد . وكانت الدولة الأموية عندئذ قد خلصت من مشاكلها الداخلية ـ أهمها ثورة عبدالله بن الزبير ـ مما جعل الدولة الأموية تستأنف حركة الفتوح على مقياس واسع ، شرقا وغربا . هذا وقد اقترن فتح تركستان باسم كتيبة بن مسلم الذى ولاه الحجاج خرسان سنة 86هـ ( 705م ) فنجح فى استعادة طخارستان كما استولى على الطالقان وبلخ فى نفس العام ثم اجتاح إقليم بخارى ( 89 ـ 90هـ  /  708ـ 709م ) وسقطت بخارى ثم سمرقند فى أيدي العرب سنة 93 هـ ( 712م ) . وجاءت هذه الحركة التوسعية مصحوبة بانتشار الإسلام .
v   عندما انشطرت دولة الترك إلى قسمين شرقى وغربى ، مر كل قسم من هذين القسمين بأدوار من القوة والضعف ، مما مكن الصينيين من التوسع على حساب الترك . ولكن الترك الشرقيين تمكنوا فى أواخر القرن السابع واوائل القرن الثامن للميلاد من إخضاع الترك الغربيين واسر خاقانهم . وفى تلك المرحلة لم يكن العرب قد ثبتوا أقدامهم تماما فى بلاد ما وراء النهر إذ انتفض عليهم السغد واستنجدوا بالترك الذين سارعوا باقتحام بلاد ما وراء النهر سنة 94هـ ( 712م ) بحيث لم يتبقى بأيدي العرب سوى إقليم سمرقند .
 **والواقع ان الشواهد التاريخية تدل العلاقات بين العرب والترك قد اتسمت بالصراع الدائم حيث ظل العرب حتى أوائل القرن الثانى للهجرة ( الثامن الميلادي ) يكتفون بصد غارات الترك من جهة الشرق إذا أوغلوا فى بلادهم وذلك لتامين الدولة العربية الإسلامية بحيث لم يحاول العرب التوغل فى تلك البلاد إلى مقر الخاقان . وفى أواخر القرن الأول الهجري ـ أوائل القرن الثامن للميلاد ( 98:76هـ / 715:705م  ) احزر العرب أثناء ولاية قتيبة بن مسلم على خرسان نصرا على الترك وان ظلت سياسة العرب اتجاه الترك طوال القرن الثانى للهجرة ( الثامن للميلاد ) تقوم على اساس دفاعى اتجاه الترك والعمل على صد هجماتهم وقد اتبع العرب فى ذلك سياسة بناء الأسوار حول المدن التى يفتحونها فى بلاد ما وراء النهر لحمايتها من هجمات الترك .
v   ومن الواضح ان احتكاك العرب بالترك فى ذلك الدور أدى إلى وقوع الأتراك المغربين ( والتى كانت أهم قبائلهم الأتراك الغز الذين انتشروا فى الأقاليم الممتدة من هضبة منغوليا حتى بلاد ما وراء النهر ومن ثم فقد لامسوا الحدود الشرقية للدولة الإسلامية ) تحت تأثير الحضارة الإسلامية العربية بخلاف الأتراك المشرقين الذين وقعوا منذ القرن السابع تحت تأثير الحضارة الصينية .       
v   والواقع ان الأمور لم تستقر للعرب  فى بلاد ما وراء النهر بسهولة ، إذ ظلت القبائل فى تلك البلاد تنتفض ضد الحكم العربى بين حين وآخر . ولعب الأتراك دورا مباشرا أو غير مباشر فى هذه الانتفاضات مما يفسر الهجمات التى شنها العرب على الترك فى عهود الخلفاء الأمويين " سليمان ويزيد وهشام بن عبد الملك ومعظم هذه الهجمات كان يكلف بها ولاة خرسان . واستمرت هذه الهجمات ولم تتوقف طوال حكم الأمويين ومن ذلك ما حدث عام 119هـ ( 737م ) عندما غزا " أسد بن عبد الله " والى خرسان الختل ودخل عندئذ معركة ضارية ضد خاقان الترك وانتهت المعركة بتراجع الترك وتقهقرهم بعد ان حققوا انتصارا فى بادئ الأمر . ومن ذلك أيضا غزو " نصر بن سيار " بلاد الترك فخرج " كورصول " ملك الترك لمقاتلة المسلمين فى 15 ألف فارس ولكنه وقع أسيرا وصلبة " نصر بن سيار . وبصفة عامة فإن دولة الترك المغربين تفككت بعد مقتل " كورصول " وبسقوط هذه الدولة لم يقم للترك بعد ذلك ملك فى تركستان ، مما أدى إلى اضمحلال نفوذهم السياسى فلا بلاد ما وراء النهر . وقد استغلل الصينيون تلك الظروف وخاصة ان تلك الفترة شهدت التطورات التى أدت إلى سقوط الخلافة الأموية و قيام الخلافة العباسية . ولكن موقف هاتين الدولتين لم يتغير اتجاه الترك ففى عام 130هـ ( 748م ) استعمل أبو مسلم الخرسانى ( بعد ان ولى على خرسان ) العمال على البلاد ومنهم " أبو داود خالد إبراهيم الذى قام بعدة هجمات حربية على الترك .   
v   وبسقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية ( سنة 132هـ ـ 749م ) لم يحدث تغيير فى سياسة الدولة الإسلامية اتجاه الترك . من ذلك ان الخليفة المهدى العباسي ( 157ـ169هـ / 775ـ 785م ) شهد عصره قيام المسلمين بحملة على فرغانة كما أرسل الخليفة المهدى نفسه إلى ملوك الترك يدعوهم إلى الطاعة فدخل أكثرهم فى طاعته ولكن استمر الترك فى مساعدة الحركات الثورية ضد الخلافة العباسية فى بلاد ما وراء النهر واستمر هذا الحال طوال عهد المهدى ومن بعده هارون الرشيد ثم المأمون والمعتصم .
v   وبصفة عامه فانه بالرغم من وجود علاقات متوترة بين العرب والترك فان هذا لم يمنع الأتراك الرحل ( الذين فى حاجه دائمة إلى الحصول على الغلال الزراعية من بلاد ما وراء النهر وهى أشياء يتعذر حصولهم عليها من الغارات ) من التردد على الثغور الإسلامية تجارا مما ساعد على انتشار الإسلام بينهم من ناحية كما أدى إلى كسر الحواجز النفسية بين وبين جيرانهم من ناحية أخرى وأدى هذا وذاك إلى تحول سياسة العرب اتجاه الترك . ولا شك فى ان هذه العلاقات التجارية الوثيقة التى ربطت بلاد ما وراء النهر بمناطق السهوب التى يسكنها الترك ساعدت على انتشار الإسلام بين الترك منذ وقت مبكر يرجع إلى العصر الأموي ولكن هذا الانتشار ظل يسير ببطئ لان الإسلام فى صورته المكتملة التى بسطها الفقهاء كان من الصعب على أهل السهوب إستعابة فى سهولة وسرعة .         
*****************************

ثانيا : الترك والإسلام
    1ـ دخول الترك فى الإسلام [2]
ظلت حركة انتشار الإسلام فى بلاد ما وراء النهر تسير ببطء حتى عهد الخليفة المعتصم العباسي فى القرن الثالث الهجرى والتاسع الميلادى ( 218ـ227هـ / 833 ـ 842 م ) وربما كان السبب فى ذلك ضعف نشاط الدعوة إلى الإسلام فى تلك الجهات ، فضلا عن ان بعض الولاة المسلمين على خرسان تصرفوا اتجاه الأهالي بأسلوب لا يتفق وتعاليم الإسلام وروحه مما احدث شرخا بين الحكام العرب من جهة وأهالي البلاد من جهة أخرى . ذلك ان هولاء الولاة أثقلوا على أهالي البلاد المفتوحة وفرضوا عليهم أعباء مالية لا تتفق وأحكام الدين حيث انهم جمعوا الجزية ممن أعلن إسلامه . ولاشك فى ان مثل هذا التصرف كانت له انعكاساته السلبية على حركة انتشار الإسلام فى بلاد ما وراء النهر وما يجاورها من بلاد الترك فى آسيا الوسطى ، ولا شك أيضا ان هذه الانتكاسات التى تعرضت لها الدعوة الإسلامية فى بلاد ما وراء النهر كان لها صداها بين الأتراك أنفسهم مما عرقل عملية انتشار الإسلام بينهم ولا سيما وأن طابع البداوة الذى غلب عليهم وحالة الفقر والتخلف الفكرى الذى كانوا يعانون منه ... كل ذلك جعلهم لا يستوعبون روح الإسلام وفكرة ومثله وتعاليمه فى سهولة . ولذلك فانه بالرغم من ان الجيوش العربية قامت منذ القرن الأول للهجرة والسابع للميلاد بحملات على بلاد الترك فضلا عن قيام العرب بصد غارات الترك ودفعهم عن حدود الدولة الإسلامية فى بلاد ما وراء النهر إلا إنه يبدوا ان الاتصالات السلمية وغير السلمية بين العرب والترك فى ذلك الدور لم تسفر عن نتائج إيجابية فيما يتعلق بانتشار الإسلام بين الترك . وهكذا حتى القرن الثانى للهجرة والثامن للميلاد عندما أرسل الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ( 105ـ 125هـ /724ـ 743 م) إلى ملك الترك يدعوة إلى الإسلام وعندئذ جمع الملك مائة ألف فارس مدجج من رجاله رافضا ذلك العرض ولكن خلال القرن الثالث الهجرى والتاسع للميلاد بدأ يظهر تيارا هادئا يمثل انتشار الإسلام بين الترك وربما كان ذلك نتيجة للتوسع فى استخدام الترك فى جهاز الدولة العباسية فى بغداد أو بخاصة فى عهد الخليفة العباسي المأمون ثم الخليفة المعتصم مما كان له اثر غير مباشر فى انتشار الإسلام بين قبائل الترك فى بلادهم ومع ذلك فانه يبدوا ان هذا الانتشار فى تلك المرحلة كان حثيثا .
وبصفة عامه فإن الملاحظ بوجه عام هو أن انتشار الإسلام بين الترك فى عصر الدولة السامانية أي منذ النصف الأخير من القرن الثالث الهجرى " التاسع للميلاد " ( 261ـ 389هـ /874 ـ 999م ) . والمعروف ان هذه الدولة قامت فى خوارزم واتخذت بخارى عاصمة لها ثم بسط السامانيون نفوذهم على بلاد ما وراء النهر وبذلك صارت الحدود الشمالية للدولة الإسلامية عندئذ مطابقة لحدين أحدهما الحد العنصرى الذى يفصل بين العنصرين الإيراني والتركي والحد الحضاري الذى يفصل بين إقليم الزراعة و إقليم الرعي .
ومن الثابت ان السامانيين عدلوا الخطة التى أتبعها المسلمون فى المرحلة السابقة للدفاع عن خرسان وبلاد ما وراء النهر وهى الخطة القائمة على اساس بناء الأسوار لحماية البلاد من غارات الترك وغيرهم من قبائل البدو الرحل وبدلا من ذلك فقد اخذوا ينظمون غزوات فيما وراء الحدود أي فى قلب إقليم المراعى الذى ينتشر فيه الترك . من ذلك فتحوا السامانيين سنة 28هـ ( 893 م ) مدينة طراربند أو طرار وحولوا كنيستها الكبيرة إلى جامع وهذا يدل إلى ان المسيحية كانت قد وصلت فعلا إلى آسيا الوسطى قبل وصول الإسلام وبالرغم من ذلك فقد كان السامانيين حرصين على جذب الأهالي فى تلك الأنحاء إلى دائرة الإسلام . وفى تلك المرحلة أعلن فريقا من التركمان دخولهم فى الإسلام وعملوا فى خدمة السامانيين وهؤلاء شكلوا درعا للدفاع عن حدود الدولة السامانية لحمايتها من هجمات أقربائهم الذين لم يدخلوا بعد فى الإسلام . وهنا ينبغى التأكيد على حقيقة خاصة بان المسيحية كان لها اتباع كثيرون من الترك عندما بدا الإسلام يشق طريه إليهم . وقد عرف الأتراك الغز المسيحية ثم الإسلام عن طريق خوارزم وهو الإقليم الذى كانت بينه وبين الغز علاقات تجارية وثيقة . والغريب ان هؤلاء المسيحيين لم يكونوا نساطرة مثل إخوانهم فى فارس و تركستان وانما كانوا أرثوذكس مما يفهم عنه ان الأتراك الغز الذين اعتنقوا المسيحية فى ذلك الدور المبكر كانوا على المذهب الأرثوذكسي . وعلى ما يبدوا ان انتشار المسيحية فى تلك الأصقاع كان سطحيا ليست له جذور راسخة مما أدى إلى عدم تشكيل عقبة جديدة فى وجه الإسلام . ولم يلبث ان غدا الإسلام الديانية الغالبة على تلك الأقاليم فى غرب آسيا . وربما كان من أسباب ذبول المسيحية سريعا فى بلاد الترك عدم ارتباط المجتمع التركى بمراكز المسيحية الرئيسية فى حوض البحر المتوسط .
وهكذا شهد القرن الرابع الهجرى ( العاشر للميلاد ) انتشار الإسلام بين الترك مما يدل على ذلك ما ورد على لسان بعض الباحثين ان ساتوق بغراخان حاكم كاشغر المتوفى سنة 344هـ (955م ) هو أول من اسلم من خاقانات الترك والذى كان ينتمى إلى أسرة القراخانيين الذين قضوا على السامانيين فى بلاد ما وراء النهر فى أواخر القرن الرابع الهجرى ( العاشر للميلاد ) وفى تلك المرحلة آخذت شعبة أخرى من الترك وهم السلاجقة الأتراك الدخول فى الإسلام ( فى بخارى و تركستان ) ولاشك ان دخول شعبتين كبيرتين من الترك فى الإسلام هما القراخانيون والغز بالإضافة إلى السلاجقة فى مدى زمنى قصير أمر له دلالته وإثارة بالنسبة لمسيرة التاريخ .
ولما كان الأتراك حديثي العهد بالإسلام فانهم اظهروا حماسة شديدة لهذه الديانة الجديدة كما اظهروا تمسكا بتعاليم الإسلام وحرصا على تطبيق أحكامه وتعاليمه حتى ان كثيرا من الشعوب الإسلامية المجاورة أخذت تترقب هيمنة الأتراك على بلادهم للخلاص من حكم بنى بوية الشيعة حيث ان الترك تمسكوا بالمذهب السنى وظهروا فى صورة حماته المدافعين عن أهل السنة مذهبا ودعوه وفقهاء واتباعا .

2ـ الترك والخلافة العباسية[3] .

 على ان العلاقات بين الترك والعرب لم تقتصر آفاقها على مناطق الحدود بين الطرفين وهى المناطق التى ارتبطت بصفة أساسية بإقليم ما وراء النهر وانما اتخذت هذه العلاقات صورة أخرى عندما أوغل الترك فى جوف الوطن العربى والواقع انه بدخول الترك فى الإسلام ، تحولت نقمة العرب على الترك إلى شئ من الإعجاب بشجاعتهم وصلابتهم . وكان ان فتح العرب أبواب بلادهم أمام الترك فاقبلوا منذ وقت مبكر على شراء المماليك والجواري الأتراك واظهر الخلفاء العباسيون بوجه خاص رغبة قوية فى اقتناء الترك الوافدين من بلاد ما وراء النهر . وكان الرقيق يجلبون من ذلك الإقليم عن طريق الشراء أو الغزو أو السرقة . وعند جلبهم يعملون ويؤدبون الآداب الإسلامية وقد يرتقى المملوك بفضل مواهبه إلى أعلى مناصب الدولة . ومن هؤلاء انوشتكين مؤسس الدولة الخوارزمية إذ كان تركيا واخذ يشق طريقة حتى عينه السلطان ملكشاه السلجوقى واليا على خوازم .
وجاء فى الأثر ان الخلافة العباسية استخدمت الأتراك فى الجيش منذ وقت مبكر وذلك نظرا لما اتصفوا به من قوة وبطش . ومن ذلك ان الفضل بن يحيى البرمكى أنشأ فى خرسان فرقة كبيرة من الأتراك الغربيين أو المغربين بلغ عدد أفرادها نحو خمسين ألف رجل بعث منهم إلى بغداد نحو عشرين ألفا  وأطلق عليهم اسم الفرقة العباسية . ومع ذلك فانه يبدوا ان هؤلاء الترك ظلوا محدودي العدد والنفوذ فى بلاط الخلافة العباسية حتى أوائل القرن الثالث الهجرى ( التاسع للميلاد ) ذلك انه من المعروف ان الدولة العباسية قامت على أكتاف الفرس ومنذ قيام هذه الدولة سنة 132هـ ( 749م ) والعنصر الفارسى يشكل عصب الدولة والدعامة والتى اعتمد عليها الخلفاء فى حياتهم الخاصة والعامة الأمر الذى أدى إلى انكماش نفوذ العرب بعد ان كانوا دعامة الحكم والحكام فى العصر الأموي .
وكان أحس الخليفة المعتصم ( 218 :227هـ /832 :842 م) بخطورة العنصر الفارسى عليه بعد ان رأى تعصب الفرس لأخيه المأمون الذى كانت أمه فارسية . وعلى الرغم من ان المأمون أوصى بالخلافة من بعده لأخيه المعتصم وكتب إلى جميع عماله فى شتى الأمصار بذلك إلا ان الفرس فى بلاط الخلافة حاولوا عدم تنفيذ هذه الوصية و إقامة العباس فى الخلافة بعد وفاة أبيه المأمون . وما كادت تتم البيعة للمعتصم حتى خالجه الشك فى نوايا الفرس و أدرك انه لا يستطيع الاعتماد عليهم فى بلاطة . وكان ان بدا المعتصم بالاتجاه نحو العرب " فاصطنع قوما من جوف مصر ومن جوف قيس فسماهم المغاربة " ولكن المعتصم لم يجد فيهم ضالته المنشودة لان العنصر العربى كان قد انتابه الفتور عندئذ . لذلك فكر المعتم فى الاعتماد على الترك وخاصة ان أمه كانت من بلادهم . وقد اشتهر المعتصم بكثير من صفات الترك كقوة البدن والشجاعة وهكذا استكثر المعتصم من جلبهم حتى بلغت عدتهم آلاف مملوك وقيل ثمانية عشر ألف مملوكا ولأجلهم بنى مدينة سامراء ولم يقتصر استخدام هؤلاء الترك على شئون الجندية والحراسة فحسب بل ان المعتصم اعتمد عليهم فى كثير من شئون الإدارة والحكم فضلا عن إدراج أسمائهم فى ديوان الجند بحيث ان الخليفة المعتصم كان أول خليفة ادخل الترك الديوان .
ولم يلبث ان اكتظت بغداد بمماليك المعتصم من الترك وهؤلاء اتصفوا بالبداوة والخشونة والغلظة مما الحق بأهل بغداد ضررا بليغا ولم يسكت أهل بغداد عن عدوان الترك عليهم فى الطرق والأسواق وانما تصدوا لهم وربما قتلوا بعضهم مما اقلق المعتصم . ولما شكا أهل بغداد إلى المعتصم عسف جنوده الأتراك رأى ان يأمن عليهم فشيد مدينة سامراء وانتقل إليها ومعه رجاله الترك سنة 221هـ ( 836 م ) وجعل منها عاصمة جديدة ومقرا لحكمة . وقد حرص المعتصم على عدم ذوبان رجاله الترك فى المجتمع العربى المحيط بهم فمنعهم من الزواج من غير عنصرهم وجلب لهم النساء من بلادهم ليتزوجوا منهن . ومهما يكن من أمر فان اعتماد المعتصم على الترك والإكثار منهم مع عدم انضباطهم وبقائهم على خشونتهم وجفائهم كل ذلك أضاف عنصرا قويا جديدا إلى دوامة النزاع العنصرى الذى كانت تعانى منه الدولة العباسية ذلك ان النزاع العصبى لم يعد مقصورا على ما كان هناك بين العرب والفرس وانما دخل الترك دائرة ذلك النزاع ليستفزوا العرب والفرس جميعا . وكان ان تآمر العرب على قتل المعتصم وزعماء الترك جميعا . ذلك انه كان لا يزال فى الدولة بعض قادة العرب الذين أغضبهم ما غدا فيه الترك من مكانة فى الدولة . ومن هؤلاء الزعماء العرب عجيف بن عنبسة الذلى اخذ يحرض العباس بن المأمون ضد عمه المعتصم ولكن المعتصم قبض على العباس بن المأمون وأمر بلعنه كما قبض على عجيف وأقصى العرب عن مناصب الدولة وحذف أسماءهم من ديوان العطاء مما جعل من الترك قوة فى الدولة لا ينافسها منافس . وهكذا آثار الترك زوبعة فى الدولة وعاصمتها . ثم ان ارتفاع شأن الترك جاء مصحوبا بإجحاف العرب حقوقهم ومكانتهم . من ذلك ان الخليفة المعتصم " كتب إلى كندربن نصر الصفدى أمير مصر يأمره بإسقاط من فى ديوان مصر من العرب وقطع العطاء عنهم ففعل ذلك .   وهكذا سارت الأمور فى عاصمة الخلافة والأمصار وقد ولى الخلافة بعد المعتصم ابنه الواثق بالله ( 227ـ 232هـ / 842ـ 847 م) الذى تابع سياسة أبيه فى الاعتماد على الترك والإكثار منهم وإضفاء الامتيازات عليهم وتسليم مقاليد الأمور فى الدولة لهم . من ذلك ان الواثق ما كاد يلى الخلافة حتى استخلف فى العام التالى اشناس التركى على السلطنة . أما العرب فى ذلك الدور فان الأمر لم يقف عند حد الإجحاف بمكانتهم وحقوقهم وانما امتد إلى التنكيل بهم فى عدة مواضع

من شبه الجزيرة العربية تارة حول المدينة المنورة وأخرى بإقليم اليمامة ففى سنة 230هـ ( 845 م ) وجه الخليفة الواثق جيشا بقيادة القائد التركى بغا الكبير ضد الأعراب الذين أغاروا على نواحى المدينة ، وقد قتل بغا الكبير منهم من قتل وحبس من حبس وضرب من ضرب حتى انه كان يحضر الواحد منهم تلو الآخر من أسرى بنى نمير ويضربه ما بين أربعمائة إلى الخمسمائة جلده مما جعل للترك مهابة فى نفوس العرب بعد ان كانوا يستخفون بهم . وعندما ولى المتوكل الخلافة 232هـ ( 846 م ) كان الترك قد وطدوا نفوذهم فى قلب الدولة الإسلامية وظهر بين صفوفهم إيتاخ ليقبض زمام الأمور فى الدولة . وكان إيتاخ هذا غلاما تركيا اشتراه المعتصم وشق طريقه بين زملائه الترك لما يتميز به من باس فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق حتى ضم إليه من أعمال السلطان أعمالا كثيرة .. وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله فعند إيتاخ .. فلما ولى المتوكل كان إيتاخ فى مرتبته إلية الجيش والمغاربة والأتراك والموالى والبريد والحجابة ودار الخلافة ..
وكان ان أحس المتوكل ان النفوذ الترك ازداد فى الدولة بحيث غدا يشكل خطرا على الخليفة نفسه لاسيما وان النفوذ التركى جاء مصحوبا بكثرة الدسائس والمؤامرات . هذا على الرغم مما وصف به المؤرخون أيام المتوكل بأنها " احسن الأيام وأنضرها " . وكما لجا المعتصم إلى نقل عاصمته إلى سامراء تحت تأثير اشتداد وطأة الترك على أهل بغداد كذلك فكر المتوكل فى الانتقال إلى دمشق ليتحرر من كابوس الترك ولعله يجد فى دمشق دعامة من العنصر العربى تغنية أو على الأقل تحد من نفوذ الترك وفعلا انتقل المتوكل إلى دمشق ونقل دواوين الملك إليها و أمر بالبناء بها . ولكن الخليفة العباسى لم تطب له الإقامة فى دمشق إذ " تحرك الأتراك فى أرزاقهم " ...و" شغب الجند واجتمعوا وضجوا يطلبون الأعطية " وعندما علم المتوكل ان الترك دبروا مؤامرة لقتله بدمشق أسرع بالعودة إلى سامراء .  وهكذا أخذت وطأة الترك على الخلافة العباسية تزداد عاما بعد عام مما جعل المتوكل بعد عودته إلى سامراء يخطط للتخلص من زعماء الترك . وعندما لمس الخليفة ان ابنه " المنتصر " يشايع الترك قرر المتوكل " ان يفتل بالمنتصر ويقتل وصيفا وبغا وغيرهما من قواد الترك ووجوههم " ولكن شاء القدر ان ينجح خصوم المتوكل فى قتله وشارك فى القتل باغر التركى حارس الخليفة وبغا الصغير وجماعة من غلمان الترك ودخل القتلة على المنتصر " فسلموا علية بالخلافة وقالوا : مات أمير المؤمنين "  . ولاشك ان مقتل الخليفة العباسى على أيدي الترك يشكل سابقة خطيرة فى التاريخ كما ان هذا العمل جاء نذيرا بتردى الخلافة وإعلانا بان الخليفة العباسى غدا فى قبضة الترك وان عليه ان يمتثل لمشيئتهم وإلا تعرض للعزل والقتل .
أما عن الموقف فى الدولة بعد مقتل المتوكل فان الترك ازدادوا إحساسا بقوتهم وسطوتهم وغلبتهم على البلاد والعباد فطلبوا من الخليفة الجديد " المنتصر محمد المتوكل " خلع أخويه المعتز وإبراهيم من ولاية العهد . ومع ان المؤرخين المعاصرين وصفوا المنتصر بأنه " كان واسع الاحتمال راسخ العقل " إلا ان وطأة الأتراك عليه وعلى رعاياه كانت اشد من ان تحتمل . ويبدوا ان عقدة الذنب فى حق أبيه كان لها آثرها فى نفس المنتصر إذ كثيرا ما كان يذكر " قتل أبيه المتوكل ويقول فى الأتراك : هؤلاء قتلة الخلفاء " وعندما أحس زعماء الترك ان المنتصر اخذ يضيق بهم فكروا فى الخلاص منه عن طريق دس السم له مما أدى إلى وفاته سنة 248هـ ( 863 م) بعد ان ظل فى الخلافة ستة اشهر . وبعد وفاة المنتصر ولى الخلافة " المستعين " وهو احمد بن محمد بن المعتصم . ولقد لقى المستعين من ضغط الأتراك عليه ما لقيه أسلافه . وعندما سمع زعماء الترك يخططون لقتله أرسل إلى بغا ووصيف يقول لهما " أنتما جعلتماني خليفة ثم تريدان قتلى " وكان ان قرر الخليفة الانتقال إلى بغداد حيث كان الوضع قد بلغ درجة الغليان بسبب نقمة الناس على الترك لقتلهم الخليفة المتوكل وتحكمهم فى مصائر الدولة . ومن ناحية أخرى فان الأوضاع اضطربت فى سامراء وفتح الأهالي السجن واخرجوا من كان فيه فأرسل جماعة من قادة الترك إلى الخليفة فى بغداد " يسألونه الرجوع إلى دار ملكة ( سامراء ) واعترفوا بذنوبهم واقروا بخطئهم وضمنوا ألا يعودوا إلى شئ من ذلك مما أنكره عليهم " ولكن الخليفة المستعين رد على قواد الترك " انتم أهل بغى وفساد واستقلال للنعم "  أعلن عفوه عنهم . وعندما يأس زعماء الترك من استجابة المستعين لرجائهم والذهاب معهم إلى سامراء قرروا إخراج المعتز جعفر التوكل من الحبس ومبايعته خليفة سنة 252هـ (866 م) أما المستعين فقد خلع نفسه من الخلافة وبايع المعتز . ولكن الأخير لم يكتف بذلك وانما شن حربا على المستعين بتحريض من الترك حتى انتهى الأمر بقتل المستعين . ومع ذلك فان المعتز سرعان ما اخذ يقاسى من ضغط الترك عليه وتسلطهم على شئون البلاد وتحكمهم فى حياته الخاصة والعامة . وكان المعتز يكره الترك لجفائهم وخشونتهم وقسوتهم . والواقع ان المعتز أحس بالشر من الترك بعد ان ولى الخلافة واخذ يترقب نهايته على أيديهم وهكذا عاش المعتز مهددا لا يخلع سلاحه فى الليل أو فى النهار خوفا من الأتراك وزعيمهم بغا . وعندما أحس الترك بان المعتز يدبر للخلاص منهم قصدوه فى المكان الذى يقيم فيه وتناولوه بالضرب بالدبابيس فخرج وقميصه مخرق فى مواضع وآثار الدم على منكبيه أقاموه فى الشمس فى وقت الحر .. وكان ان خلع المعتز نفسه من الخلافة فى أواخر شهر رجب 255هـ (869 م ) و أرسل فى طلب محمد بن الواثق ( الملقب بالمهتدى ) ليحل محله فى الخلافة . وكان كل ما طلبه المعتز من الترك عند خلعه هو ان يعطوه الأمان ان لا يقتل وان يؤمنوه على نفسه وماله وولده . وعندما أراد المهتدى ان يتوسط فى أمر المعتز ويصلح الحال بينه وبين الأتراك ليبقى فى الخلافة قال المعتز لا حاجة لى فيها وكان ان قتل المعتز فى محبسه بعد خلعه بستة أيام مما آثار ألم المعاصرين . وعندما اخذ الخليفة المهتدى يخطط فى الخلفاء للخلاص من الترك وسيطرتهم دبروا مؤامرة لقتله فتصدى لهم وأراد ان يضرب بعضهم ببعض حتى يخلص منهم جميعا ولكنه لم يستطع تحقيق غرضه وانتهى أمره بالقتل سنة 256هـ (870 م) . ومع ذلك فإنه يبدوا ان سياسة المهتدى بالله اتجاه الترك وجرأته على تحديهم هزت مكانتهم وأصابت وضعهم فى الدولة مما ساعد الخلافة العباسية على استعادة بعض نفوذها فى الدولة . وقد ظهر هذا بوضوح فى عودة الخلافة من سامراء إلى بغداد وفيها عناصر كثيرة ضاقت ذرعا بالترك وتحمست لحماية الخلافة من سيطرتهم عليها . وقد اتضح هذا الاتجاه تدريجيا بعد المهتدى إذ بويع للخلافة المعتمد على الله وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنه (256ـ 279هـ / 870 ـ892 م ) وهى مدة طويلة إذا قيست بالمدد التى قضاها فى الخلافة أسلافه المباشرين . حقيقة انه اخذ على المعتمد انصرافه إلى اللهو والملذات والشراب مما جعله يقضى فترة حكمه محجوز عليه تحت سيطرة أخيه " الموفق " ولكن حسبه انه لم يمت مقتولا مثل أسلافه المباشرين أيضا وان الذى قام بالسيطرة علية أخوه وليس أحد القادة الترك . هذا بالإضافة إلى انه كان أول خليفة انتقل من سامراء إلى بغداد ثم لم يعد إليها .
وفى نهاية القرن الثالث الهجرى ( التاسع للميلاد ) ظهر جليا امتداد الخلل الذى عانى منه قلب الخلافة العباسية تحت سيطرة الأمراء الأتراك إلى والولايات والأمصار وأطراف الدولة فكثرت الفتن والتيارات المذهبية والفرق المناوئة للدولة ومذاهبها مثل الإسماعيلية والقرامطة والفاطميين . وإذا كان بعض الخلفاء الذين ولوا الخلافة العباسية بعد المعتمد أمثال " المعتضد والمكتفى " قد تميزوا بشيء من الكفاية والمقدرة فان من جاء بعدهم أمثال " المقتدر والقاهر والراضى " غلب عليهم الضعف والخمول مما أعاد إلى الترك سابق هيمنتهم على الدولة والخلافة .
** وبصفة عامة فانه نتيجة للعلاقات بين الخلافة الإسلامية العربية وبين الترك الذين تغلغلوا فى الخلافة وزاد نفوذهم فيها نتيجة استعانة الخلفاء بهم فى الحكم ان ظهر صراع عنصري داخل جسم الخلاف مما أدى إلى تفككها واهم مظاهر ذلك مايلى :
ý   قد اصطلح فى التاريخ الإسلامي على اتخاذ عهد الخليفة المتوكل ( 232ـ247هـ /846 ـ 861 م ) بداية العصر العباسى الثانى وهو العصر الذى شهد الانحلال السياسى للدولة العباسية والذى استمر حتى سقوط بغداد فى أيدي التتار سنة 656هـ / 1258 م . ويربط المؤرخون ذلك الانحلال بازدياد نفوذ الترك فى الدولة واعتماد الخلفاء عليهم وإيثارهم إياهم على العرب والفرس جميعا ، وهم الذين كانوا منذ قيام الدولة الإسلامية بمثابة الدعامة الرئيسية للحكم . وبعد ان كان الترك المجلبون إلى بلاط الخلافة يعملون فى تنفيذ اوامر الخليفة وياتمرون بأمره ويشكلون درعا يحمى الخلافة من خصومها إذا بنفوذهم يطغى على ما عداه فاستغلوا كثرة عددهم ليشكلوا عصبية عنصرية جديده حلت محل الرب والفرس جميعا وقد بلغ من سطوتهم وسيطرتهم على الخلافة والخلفاء ان صاروا يعينون فى منصب الخلافة من يشاءون ويعزلون ويقتلون من يكرهون فضلا عن سيطرتهم على شئون الدولة ومرافقها وتسلطهم على الرعايا وإذلالهم وسلب أموالهم ومصادرتها . ولم يلبث ان تمكن بعض أمراء الترك من إقامة دول مستقلة أو شبه مستقلة لأنفسهم فى أجزاء من جسم الخلافة . ذلك ان العديد من ولايات الدولة صار يقطع لأمراء الترك وهؤلاء غالبا ما كانوا يفضلون الإقامة فى حاضرة الخلافة حيث النفوذ والجاه وينيبون عنهم من بنى جلدتهم من يحكم الولاية باسمهم . وقد ترتب على هذا الضعف للخلفاء العباسيين ان ضعفت سلطة الخلافة فى الولايات البعيدة مما أدى إلى ان لجأ الولاة أو أمراء الولايات الاستقلال بولاياتهم مما أدى إلى تفكك الدولة العباسية . وقد اتضحت صورة استقلال الحكام فى عدد من ولايات الدولة فى المشرق والمغرب جميعا وذلك فى منتصف القرن الثالث للهجرة واوائل القرن الرابع ( التاسع والعاشر للميلاد ) . وبصرف النظر عن الدول المستقلة التى قامت فى المغرب فان الذى يسترعى الانتباه هو ان تلك التى قامت فى المشرق وفى مصر والشام ارتبطت بأسماء بيوت من الأعاجم أصولها غير عربية تركية أو فارسية . ولم يشذ عن ذلك إلا بعض البيوت العربية القليلة التى تمكنت من إقامة إمارات ضيقة النفوذ قصيرة العمر . ومن ذلك ان قبيلة بنى تغلب أقامت دولة الحمدانيين فى الموصل وحلب ( 317ـ 394هـ /929ـ 1004 م) وأقامت قبيلة كلاب دولة المراسيين فى حلب ( 414ـ 472هـ /1023ـ1079م ) وأنشأ بنو عقيل إمارة العقيليين فى ديار بكر والجزيرة ( 386ـ489هـ / 996ـ 1096م ) أما بنو أسد فقد أقاموا دولة المزيديين فى الحلة ( 403 ـ545 م
ý   أما عن الفرس فقد ساءهم ان الترك انتزعوا منهم الهيمنة على شئون الخلافة العباسية فبعد ان كان الفرس فى العصر العباسى الأول هم عمد الخلافة العباسية فى الداخل والخارج ولم يرض الفرس عن ذلك الوضع مما جعل بغداد فى العصر العباسى الثانى تصبح مسرحا لكثير من المصادمات بين الدايلمة والأتراك وكان ان نجح الفرس فى إقامة دول مستقلة على حساب الدولة العباسية وذلك فى المشرق الإسلامي أهمها الدولة الطاهرية فى خرسان ( 205ـ259هـ/820 ـ 832م ) والدولة الصفارية فى فارس ( 254ـ290 هـ/ 868ـ 903 م ) والدولة السامانية فى فارس وما وراء النهر ( 261ـ389 هـ/ 875 ـ 999م ) والدولة الزيارية فى جرجان (316ـ434هـ / 928ـ 1042م ) ودولة البويهيين فى فارس والعراق ( 320 ـ 447هـ/ 932 ـ 1055م ) .   
*****************************
                                3ـ العرب فى ظل الخلافة العثمانية فى تركيا  [4]

قامت الدولة العثمانية شمال غرب الأناضول فى أواخر القرن الثالث عشر ميلادية بعد ان انهارت دولة سلاجقة الروم على اثر هزيمتها على أيدي المغول ، وقامت على أنقاضها دويلات تركمانية متنافسة لم تكن أقواها إمارة عثمان التى قيض لها ان تتوسع بصورة مطردة على حساب كل من الدولة البيزنطية المتداعية والإمارات التركمانية فى الأناضول وان تعبر الدردنيل وبحر مرمرة وتبدأ فى التوسع فى البلقان . وظلت الدولة العثمانية تتوسع فى أوربا وتحرز انتصارات باهرة ومتتالية على الحملات الصليبية التى كانت ترسلها أوربا لتدميرها فى المهد إلى ان أمكنها فى النهاية ان تسقط الدولة البيزنطية بعد ان استولت على القسطنطينية فى عام 1453م ، وحققت أملا طالما راود خيال المسلمين منذ الفتوح الإسلامية الأولى . وأدى هذا إلى ارتفاع مكانة الدولة العثمانية فى العالم الإسلامي بعد ان أصبحت أقوى الدول الإسلامية خاصة وأنها كانت أول دولة إسلامية تستعمل الأسلحة النارية التى قلبت موازين القتال لصالح من يستخدمها وقد ساعد ذلك فى سقوط القسطنطينية وسهلا على العثمانيين الاستيلاء عليها وهو ما فشل فى تحقيقه .كل من هاجموا المدينة من قبل .
وقد حول محمد الفاتح القسطنطينية إلى عاصمة لملكه الممتد فى أوربا وآسيا ، وذلك لتوسط موقعها وحصانته وما لبثت ان عرفت باسم استانبول أو اسلامبول و أصبحت قاعدة لإمبراطورية عالمية فشيدت بها المدارس والمكتبات والمؤسسات الخيرية ، وغدت ابرز المراكز الثقافية فى العالم الإسلامي بآسره . وبالتالى أطلقوا على إمبراطوريتهم بعد اتساعها اسم " دار الإسلام " وعلى سلطانها اسم " باديشاه الإسلام " وعلى جيشها اسم " جند الإسلام " وعلى كبير فقهائها اسم " شيخ الإسلام " فقد اعتبر العثمانى إمبراطوريته التى ما لبثت ان ضمت كل المراكز الإسلامية الكبرى وكأنها الإسلام ذاته ، ومن ثم الشعور بضخامة المسئولية الملقاة على عاتق العثمانيين باعتبارهم حملة رسالة الإسلام ، بل انهم اخذوا بالتقاليد الإسلامية وادخلوها بطريقتهم الخاصة فى الإدارة والحكومة وذلك باعتبارهم مسلمين وورثة الحضارة الإسلامية .
وإذا كان استيلاء الدولة العثمانية على القسطنطينية قد أعلى مكانتها فقد ازدادت هيبتها على اثر تصديها للخطر الأسباني ـ البرتغالي الذى كان يؤذن بتطويق العالم الإسلامي على اثر الكشوف الجغرافية وتفوق أسبانيا والبرتغال فى المجالين البحري والعسكري فى الوقت الذى سيطر فيه العثمانيون على البقاع الإسلامية المقدسة فى القدس والحجاز ثم المزارات الشيعية فى العراق وعلى القواعد القديمة للخلافة فى المدينة المنورة ودمشق وبغداد والقاهرة وبالتالى أضيف إلى ألقاب كل سلطان لقب " حامى حمى الحرمين الشريفين " تأكيدا لزعامته على العالم الإسلامي السنى بل ان السلاطين أحيانا ما تلقبوا بلقب خليفة المسلمين .
وبصفة عامة فإن ما يهمنا فى هذا الإطار التأكيد على بعض الأحداث والنقاط الهامة التى توضح لنا العلاقات العربية التركية فى ظل الخلافة العثمانية أو بمعنى اصح التى توضح أحوال العرب فى ظل الخلافة العثمانية وذلك كما يلى .
v   شهد عهد الخلافة العثمانية ظهور الحركة الصفويه والتى كانت تمثل المذهب الشيعى وتنسب الحركة الصفوية إلى الشيخ صفى الدين ( 1252م ـ 1334م ) الذى كان من المتصوفة الزاهدين وكانت هذه الحركة قد انتقلت منذ أواسط القرن الخامس عشر من التأمل الصوفي إلى العقيدة الشيعية المناضلة . ولقد طور الصوفيون لباس راس خاص له اثنتا عشر من التأمل الصوفي إلى العقيدة الشيعية الإثنى عشر باعتباره شعارا يميز اتباعهم الذين عرفوا باسم قرلباش ( الرأس الأحمر ) . ولقد فر إسماعيل الصفوى ( 1487ـ 1524 ) إلى إيران مصطحبا معه سبع قبائل من القرلباش مكنته من القضاء على الأسر الحاكمة الصغيرة وفى توحيد قبائل إيران وبالتالى السيطرة على إيران خلال عقد واحد . وعلى حين ان الأسرة الصفوية برزت أساسا باعتبارها زعيمة لحركة تركمانية صوفية فن التحول إلى المذهب الشيعى اكتمل فلا إيران خلال السنوات الأولى من القرن السادس عشر باعتبارها جزءا من العملية التى أدت إلى انضواء جماهير إيران تحت زعامة الشاه إسماعيل الذى كان يحظى بكثير من الاحترام ، بل والتقديس لدى قبائل التركمان التى توافدت للانضمام إلية . وما ان استتب له الأمر حتى قرر مد النفوذ الصفوى إلى الأراضي العثمانية الواقعة فى شرقى الأناضول فأرسل مئات الدعاة الذين نجحوا فى نشر دعوته فى أوساط التركمان . وقد فسر العثمانيون انتشار المذهب الشيعى باعتباره تهديدا سياسيا ومن ثم تصديهم للصفويين ليس فقط بسبب ما كان يتضمنه نشاطهم من خطر بل أيضا لان الدعوة الشيعية كانت تمثل تحديا أساسيا لاتجاه السنى الذى أخذت به الدولة العثمانية . وفى شتاء 1508ـ 1509 استولى إسماعيل الصفوى على بغداد ومعظم جنوب غربى إيران وبعد ان انفرد بالحكم أعلن ان التشيع هو المذهب الرسمى لإيران وعمل على نشره على أوسع نطاق وتطلع إلى الاستيلاء على العراق حيث توجد العتبات المقدسة ( النجف وكربلاء ) وبالفعل استولى على العراق وسعى إلى فرض المذهب الشعى على سكانه ، كما اتجه إلى التحالف إلى التحالف مع ملك المجر ضد العثمانيين الذين أدركوا خطورة الوضع على أملاكهم الشرقية . وهذا الخطر الصفوى المتزايد أدي إلى تولى " سليم الأول " عرش الدولة العثمانية فى عام 1512 بعد ان ساعدته القوات الانكشارية على خلع والده بايزيد الثانى الذى لم يتصد للصفويين تصديا إيجابيا ، ومن ثم إرغامه على التنازل عن العرش . وبعد ان تولى سليم الحكم بدأ باعتباره منقذ الإمبراطورية من الخطر الشيعى خاصة وانه كان قد قاد الانكشارية إلى النصر فى عدة حملات موفقة فى جورجيا وفى شرقى الأناضول . وقد عمل سليم على تامين جبهته الواروبية بسلسة من الاتفاقيات وحشد جيوشه للتصدى للصفويين . وكان المماليك الذين انزعجوا هم الآخرين من خطورة تعاظم قوة الصفويين قد عقدوا حلفا رسميا مع العثمانيين ضد الشاه إسماعيل ( 1513) . وبذلك أتاحوا له فرصة حشد كل قوته الصفويين دون ان يتعرض جناحه الجنوبي للخطر . وقبل ان يتقدم الجيش العثمانى صوب الشرق جرى ذبح آلاف من اتباع القزاباش فى الأناضول ، ثم اتجهت القوات العثمانية لملاقاة الصفويين . ولكن الشاه إسماعيل تجنب القتال خشية تفوق القوات العثمانية مؤثرا سحبها إلى أراضى شمال إيران الجبلية حيث تمكنه طبيعة الأراضي ومشاكل التموين من موازنة قوة الجيشين . وفى أواسط أغسطس 1514م قرر سليم الزحف على تبريز عاصمة الصفويين لإرغام الشاه على خوض القتال دفاعا عنها ودارت المعركة الفاصلة فى سهول جالديران الواقعة فى منتصف الطريق بين أرز بجان وتبريز ( 23اغسطس 1514م) . وانتصرت القوات العثمانية بفضل أسلحتها النارية المتفوقة، ثم ضم سليم إلى أملاكه ولايتي ديار بكر وكردستان واحتل تبريز التى ما لبث الصفويون ان استردوها على اثر انسحاب الجيش العثمانى الذى داهمه شتاء إيران القارص وهبطت روح قواته المعنوية وآثر بعضها العودة إلى إقطاعياتها التى كانت قد حصلت عليها فى مقابل ان تتوجه إلى ميدان القتال لدى أول إشارة . ولكن هذه المعارك لم تحسم الصراع بين العثمانيين والصفويين حيث ظل الصفويون فى عهد " طهماسب بن إسماعيل الصفوى يثيرون القلاقل فى أوساط التركمان فى الأناضول فى الوقت الذى شهد فيه العراق الأوسط والجنوبي ( بغداد إلى البصرة ) محاولة لفرض المذهب الشيعى من جانب الصفويين الذين سعوا إلى التضييق على العقائد السنية فجرى إعدام كبار الفقهاء السنيين ، ودمرت أضرحة السنة ومزاراتهم ، بما فى ذلك ضريحا آبى حنيفة النعمان وعبد القادر الجيلانى وحولت المساجد السنية الكبرى إلى مراكز لممارسة الطقوس الشيعية . ولم يكن باستطاعة سليمان القانونى الذى كان سلطان العثمانيين فى ذلك الوقت " زعيم العالم السنى " ان يقف إزاء ذلك مكتوف الأيدي خاصة وان استيلاء الصفويين على العراق وفارس كان قد أدى إلى عرقلة مرور التجارة بين الشرق الأقصى وأوروبا فى الوقت الذى تحولت فيه سيطرة البرتغاليين على البحار الشرقية إلى حصار عام لكل الطرق القديمة بين الشرق والغرب عبر شرق أوسط كان تحت السيطرة العثمانية . وفى أكتوبر 1533 استولى القانونى على المنطقة الممتدة بين ارض روم وبحيرة وان وكان هدفه هو الاستيلاء على أذربيجان ثم زحف بقوة كبيرة أوساط فارس . وإزاء تجنب طهماسب مواجهة القوات العثمانية ركز سليمان جهده فى الاستيلاء على العراق وفى عام 1534 أمكنه احتلال بغداد . ورغم ان القوات العثمانية لم تتقدم حينئذ صوب البصرة إلا أنها ما لبثت ان احتلتها عام 1546 ثم قامت بعد ذلك بالزحف على الإحساء فى عام 1555 والى ما وراء ذلك حتى مسقط . إلا ان حكم العثمانيين لم يستمر فى المناطق الواقعة فيما وراء الإحساء ، كما فشلوا فى فرض سيادتهم على المياه الشرقية وفى الخليج العربى نتيجة لوصولهم متأخرين إلى هذه المناطق بعد ان فرض البرتغاليون سيطرتهم عليها خاصة وان العثمانيين لم يبذلوا جهدا كبيرا لوقف الخطر البرتغالى إلا بعد استيلائهم على مصر وقيامهم بنشاط بحري واسع النطاق فى البحار الشرقية لم يتمخض على أي حال على القضاء على الخطر البرتغالى .    ورغم الانتصارات التى أحرزها سليم الأول وابنه سليمان لم تستطع الدولة العثمانية أن تتقدم داخل إيران بسبب قوة الصفويين المركزية ووجود الهضبة الإيرانية وصعوبة توجيه الجيوش العثمانية ضد دولة إسلامية بعد ان كان قيامها واتساعها مرتبطين بالجهاد ضد " دار الكفر " . وكان من نتيجة ذلك ان توقفت الجيوش العثمانية فى الشرق وعجزت عن التوسع فى أواسط آسيا والهند فى الوقت الذى واجه فيه العثمانيون السفن البرتغالية المتفوقة التى طردتهم من مياه المحيط الهندي .                                                                
v   نشوب بداية الصراع بين العثمانيين والمماليك حكام مصر والشام نتيجة لتجاور الدولتين منذ ان ضم محمد الفاتح إمارة ذى القادر التى كانت تشكل دولة عازلة بين الدولتين فى كيلكيا . وأدى ذلك إلى نشوب أول حرب مملوكية عثمانية 1485 ـ 1491 م لم تزل عن كونها سلسلة من المناوشات التى انتصر فيها المماليك فى البداية وان لم يتمكنوا من مواصلة انتصاراتهم بسبب المشاكل السياسية والاقتصادية التى ترتبت على الصراع على السلطة والقحط الناتج عن انخفاض النيل والأوبئة وازدياد الضرائب وغير ذلك .  وبعد تولى " سليم الأول " عرش الدولة العثمانية فى عام 1512اتجه إلى القضاء على الصفويين ودارت بينه وبينهم معارك أدت إلى انتصاره ولكنها لم يؤدى إلى إنهاء حركة الصفويين ولكن حرب سليم فى فارس مع الصفويين أقنعته بان علية قبل مواصلة القتال ضد الصفويين ان يتصدى للمماليك الذين كان وجودهم فى الشام يشكل خطرا على دولته مهما اظهروا له الود . ولم يكن باستطاعته سليم ان يتقدم لمواجهة المماليك لولا النصر الحاسم الذى أحرزته الأسلحة النارية التى مكنته من خوض حرب خاطفة ودحر الصفويين ثم المماليك قبل ان يعود إلى عاصمته استانبول . واستهل سليم حملته الجديدة بالقضاء على إمارة ذى القادر مما مكنه من السيطرة على كيليكيتا ومواجهة القوات المملوكية التى قادها السلطان المملوكى قنصوه الغورى إلى الحدود الواقعة بين الدولتين ضاربا عرض الحائط برأي كبار المماليك الذين كانوا يخشون استفزاز السلطان العثمانى الذى قرر الاستيلاء على الأراضي المملوكية لأسباب استراتيجية بحكم ان سيطرته على مواني كيليكيا كانت توفر له طريقا بحريا يمكنه من تموين حملاته القادمة ضد الصفويين بصورة أجدى مما كان علية الحال أثناء الحرب السابقة . وقد وفر جواسيس السلطان سليم له وسائل الاتصال ببعض كبار المماليك أهمهم خايربك نائب الغورى فى حلب وجان بردى الغزالى نائبة فى حماه فى الوقت الذى أرسل إلية كثير من كبار موظفي المماليك رسائل سرية يعرضون فيها التعاون معه فيما لو غزا الشام مقابل ان ينعم عليهم بالوظائف والأموال . وفى ذلك الأثناء بلغ سليم أنباء تقدم الغورى إلى داخل الأناضول قرر شن الحرب على دولة المماليك وتأجيل مشروعاته الخاصة باستئناف الحرب ضد الصفويين وفى 24 أغسطس 1516م دارت المعركة الحاسمة بين المماليك والعثمانيين فى مرج دابق والذى تعرض فيها السلطان الغورى للخيانة من بعض كبار قواده وخاصة خايربك وجان بردى الغزالى اللذان إنضمان إلى الجيش العثمانى أثناء المعركة مما أدى إلى انكشاف جناح الجيش المملوكى الذى داهمته الأسلحة النارية العثمانية وحصدت رجاله حصدا مما أدى إلى انتصار العثمانيين ومقتل الغورى . ثم احتل سليم حلب وحماه ودمشق حيث رحب به الأهالي ورجال القبائل البدوية ورؤساء الطوائف الإسلامية والذمية . وعلى اثر معركة مرج دابق خلع سليم على نفسه لقب " خادم الحرمين الشريفين " فى حين اختار مماليك القاهرة سلطانا جديدا هو طومان باى الذى انهزمت قواته فى الريدانية قرب القاهرة ( 22 يناير 1517م ) ثم قبض علية وشنق على باب زويله . وعلى اثر دخول سليم القاهرة استقبل ابن شريف مكة الذى عرض علية تبعية والده للدولة العثمانية ثم جرى تعيين الشريف أبو البركات ذاته حاكما على جدة ومكة والمدينة وسائر الحجاز وهو ما تورثه خلفاؤه من بعده . وما لبث سليم ان ربط كثيرا من الأوقاف على المسجد الأقصى وعلى الأماكن الإسلامية المقدسة فى الحجاز .
v   أما الحدث التاريخى الثالث الذى ارتبط بالخلافة العثمانية هو الخطر البرتغالى والأسباني ولذلك فعندما ضم سليم الشام ومصر والحجاز إلى سلطانه بذل جهدا كبيرا لإنشاء أسطول قوى يمكنه من مواجهة أسرة الهابسبورج التى كانت تحكم أسبانيا وإيطاليا والنمسا والأراضي المنخفضة وأملاك أسبانيا فى العالم الجديد ومن فك حلقة الحصار الذى فرضه البرتغاليون على المياه الشرقية . وقبل ان يتوفى " السلطان سليم الأول " فى عام 1520 كان لدى العثمانيين أسطول قوى وان لم يستخدم على نطاق واسع إلا فى عهد ابنه السلطان " سليمان " المشهور بالقانونى ( 1520 ـ 1566م ) وهو العهد الذى شهد أوج اتساع أملاك الدولة العثمانية التى أصبحت ندا للإمبراطورية الرومانية المقدسة التى تزعمت العالم المسيحى وسيطر عليها الهابسبورج واصبح فى يد العثمانيين أسطول قوى أمكنه ان يسيطر على شرقى البحر المتوسط وأن يثير الرعب فى مياهه الغربية . وبصفة عامة فإن أهم أحداث هذا العهد تتلخص فى :ـ
§    بعد استيلاء العثمانيين على مصر بذلوا جهدا كبيرا للتصدى للبرتغاليين ففى الوقت الذى أقام خلاله الصدر الأعظم إبراهيم باشا فى مصر قام بتجديد المرسى المملوكى القديم فى السويس ، وانشأ قيادة بحرية منفصلة للبحر الأحمر كان يتم الإنفاق عليها من حصيلة الجمارك المصرية ولم يستعد الأسطول العثمانى نشاطه إلا بعد أن أدى الاستيلاء على العراق والوصول إلى الخليج إلى إنزال أسطول عثماني فى مياهه كما تلقى السلطان سليمان من حاكم جوجرات المسلم فى غربى الهند طالبا المساعدة ضد كلا من البرتغاليون والمغول الذين كانوا قد استولوا على معظم شمالي ووسط الهند ثم شرعوا بالزحف صوب الغرب وإيذاء ذلك توجه أسطول عثماني من السويس صوب الشرق ( يونيو1538 ) تحت قيادة سليمان باشا الخادم حاكم مصر وخلال مرور هذا الأسطول بعدن واليمن استغل قادته الخلافات الناشبة بين الأسرات المحلية الحاكمة واستولوا على المناطق الساحلية وبذلك توافرت للإمبراطورية العثمانية قواعد متقدمة للدفاع عن البحر الأحمر فى وجهة أي هجمات برتغالية قد تشن فى المستقبل وحين وصل سليمان الخادم إلى جوجرت كان حاكمها قد أدرك أن العثمانيين إنما جاؤا ليبقوا ومن ثم إدخاله القوات البرتغالية إلي المدينة بهدف عرقلة نزول العثمانيين الذين ما لبثوا أن عادوا إلى مصر وبالتدريج تعززت سيطرة العثمانيين على اليمن الداخلية . وفى عام 1547م تم احتلالهم لصنعاء ورغم انهم استولوا على معظم غربى شبة الجزيرة العربية إلا انهم لم يحكموا سيطرتهم على اليمن نتيجة للمقاومة التى أبداها الزيود فى الداخل وقد تمخضت جهود سليمان القانونى الهادفة إلى تقوية الإدارة العثمانية عن تقسيم اليمن إلى ولايتين ولو أن ذلك أدى إلى بعثرت القوات ونشوب الصراع على السلطة واستغل الزيود الفرصة واحتلوا معظم المناطق الساحلية بما فيها عدن بالإضافة إلى صنعاء 1567م بحيث لم تبقى فى أيدي العثمانيين سوى  زبيد والمناطق المحيطة بها ورغم أن السلطان سليم الثانى استطاع توحيد ولايتى اليمن فى إبريل 1568م  تحت قيادة حاكم حلب الشركسي " عثمان ازدمير وغلو باشا " الذى أمكنة بمساعدة " سنان باشا " حاكم مصر أن يهزم الزيود ويسترجع صنعاء ويستعيد ولاء معظم القبائل اليمنية إلا أن الزيود احتفظوا بمواقعهم فى المناطق الجبلية .
§    أن الأسطول العثمانى فى البحر الأحمر تحول فى أواسط القرن السادس عشر إلى قوى كبرى كان يقودها ابرز القادة البحريين العثمانيين فى القرن السادس عشر وهو " بيرى رئيس " ( 146ـ 1554م) والذى كان قد برز فى عهد " بايزيد الثانى أبوا سليم الأول  " باعتباره قرصانا فى البحر المتوسط ثم عاون سليم الأول فى فتح مصر وفيما تلي ذلك من عمليات فى البحر الأحمر و ألف اكبر موسوعة بحرية عثمانية فى ذلك الوقت . وفى عام 1547م جرى تعيين " بيرى " قائدا عاما الأسطول العثمانى فى المحيط الهندى بالإضافة إلى منصبة باعتباره قبطانا لأسطول مصر ، وان قد تم فصل هذين المنصبين عن حكومة حنوبى اليمن وعلى اثر إرسال البرتغاليون حملة كبرى إلى البحر الأحمر وصلت إلى مقربة من السويس واحتلت عدن استطاع بيرى استرجاع عدن والقيام بنشاط سنوى فى المحيط الهندى ولكن البرتغاليون بنوا قلعة فى كل من مسقط وهرمز وزودهما بالحاميات ثم نزلوا إلى القطيف لعرقلة تحويل البصرة إلى قلعة بحرية عثمانية ولو أن بيرى أمكنه أن يطرد البرتغاليون من مسقط 1552م .
§    وبعد وفات بيرى جرى تعيين سيدي على رئيس قبطانا لأسطول البحر الأحمر مع تكليفه بمهمة أخرى هى فرض السيادة العثمانية على الخليج ورغم انه أعاد بناء ميناء البصرة وبني أسطولا جديدا فقد أوقع به البرتغاليون الهزيمة بالقرب من هرمز مما أدى إلى إغلاق الخليج فى وجه الملاحة العثمانية ولو أن سيطرة العثمانيين على البحر الأحمر قد مكنتهم من استعادة قسط كبير من التجارة الدولية القديمة عبر مصر فى الوقت الذى لم تكن فيه لدى البرتغاليين القوة البحرية اللازمة لإحكام الحصار على الطريقة القديمة وكان للوجود العثمانى فى المياه الشرقية أثرة فى التطورات التى مرت بها مناطق شرقى أفريقيا بحكم انه شجع على شن الهجوم على البرتغاليين الذين كانوا قد سيطروا على موانئ سواكن وزيلع ومصوع فى شرق أفريقيا وسعوا بالتحالف مع الحبشة إلى تعزيز وجودهم العسكرى والتجاري فى حوض البحر الأحمر وضمان استمرار تجارة أوربا مع الشرق عبر طريق راس الرجاء الصالح . وفى 1542ـ 1543م جرت محاولة لغزو الحبشة على أبدى أمراء ساحل شرقى أفريقيا المسلمين ( دهلك ومصوع وزيلع وسواكن ) الذين استعانوا بالعثمانيين لطرد البرتغاليين . وفى عام 1554م واجه الأسطول العثمانى ( الذى كان يقوده سنان باشا ) البرتغاليين أمام شواطئ مصوع وألحق بهم الهزيمة . ثم صفى العثمانيون المواقع البرتغالية على طول امتداد شواطئ البحر الأحمر وبنوا بها القلاع ، وفى عام 1557م احتل العثمانيون ميناء مصوع وتعاون أهل البلاد معهم ومع التجار القطران المنافسين للبرتغاليين فى طرد هولاء الأخيرين الذين اتسم حكمهم بالوحشية . ونتيجة لكل ذلك تم طرد البرتغاليون نهائيا من المنطقة التى تأكدت فيها السيطرة العثمانية على طول شواطئ البحر الأحمر الأفريقية حيث تم إنشاء أبالة قاعدتها ميناء جدة عرفت بإبالة الحبش وان لم يتوغل العثمانيون فى الداخل نتيجة المقاومة التى أبداها الأحباش . ونتيجة لهذه الجهود التى بذلها العثمانيون أمكنهم عرقلة حصار البرتغاليين للطرق القديمة ، ولم يحدث إلا منذ القرن السابع عشر ، وحين حلت الأساطيل الإنجليزية والهولندية المتفوقة محل الأسطول البرتغالى ، أن أغلقت الطرق القديمة نهائيا بحيث واجه الشرق الأوسط ضائقة اقتصادية حادة لم يفق منها إلا بعد وقت طويل .
وبصفة عامة فقد إتسع نطاق مسئوليات الدولة العثمانية فى العالم العربى الذى سيطرت على معظمة عدة قرون ـ والاحتلال العثمانى للأراضي العربية هو الذى خلع الزعامة السياسية على العثمانيين فى أنظار المسلمين . فالسلطان العثمانى هو حامى الحرمين الشريفين والمدافع عن أراضى إسلامية واسعة النطاق وصاحب الظفر على الكفار فى البلقان ، ومن ثم إلقاؤه ظلا إمبراطوريا على الأراضي التى يتعرض فيها المسلمون للمتاعب وحرصا من الدولة العثمانية من المحافظة على الشرعية واكتساب قلوب المسلمين فأنها أبدت اهتماما لم يسبق له مثيل بالفقهاء الدينين عن طريق النظام الذى أدخلته إلى الكليات وفرص الوظائف التى وفرتها لهم ونظامها فمنذ أن استولت على البلدان العربية لم تعد دولة حدود بل خلافة إسلامية مما جعل السلاطين لا يعتبرون أنفسهم مجرد حماه للحدود وحدها بل للعالمين العربى والإسلامي بآسرهما ولقد تحولت استانبول إلى مركز للتراث الدينى الذى جرى نقله من مكتبات بغداد والقاهرة وغيرها وهو التراث الذى ساعد على المحافظة عليه وجود المؤسسات العلمية الغنية .
ولقد طبقت الدولة مبادئ الشريعة الإسلامية تطبيقا صارما وحافظت على التقاليد والفروض الإسلامية ونظمت الحج إلى الحجاز وأنشأت الآبار على طول الطريق إلى البقاع المقدسة فى الحجاز وقامت بحراستها وشيدت الخانات وأقامت المخابز فيها وأجرت الأوقاف عليها وعينت أمراء للحج ليقودوا الحجاج المتجهين إلى الحجاز بحيث اصبح السلطان العثمانى بمثابة الزعيم الروحي لأمراء الحج المسلمين فكانت الدولة تشرف على قوافل الحج الأربع الرئيسية التى كانت تخرج من كافة أنحاء الإمبراطورية العثمانية فى مواعيد محددة يقود كلا منها أحد كبار العسكريين . واهتمت الدولة بإنشاء العديد من المساجد الكبرى التى تنافس السلاطين فى بنائها وحذا حذوهم الأمراء ورجال الدولة . بل وامتد هذا الاهتمام إلى الولايات الإسلامية التى كان السلاطين يعهدون إلى حكامها بإصلاح وتجديد المساجد القديمة و أهمها الحرمان الشريفان والأزهر والمسجد الأقصى والمسجد الأموي . هذا بالإضافة إلى تعيين السلاطين العثمانيون قضاه فى المدن التى كانوا يستولون عليها بحكم أن الدولة كانت فى حاجة مستمرة إلى إجراء تعديلات على قوانين البلاد وتفسير الشريعة على ضوء الظروف المتغيرة .
أما التعليم العالى فكانت تضطلع به المدارس وكليات المساجد ولما كان العثمانيين قد حافظوا على اللغة العربية التى كانت موضعا للاحترام بسبب ارتباطاتها الدينية وكانت هى لغة التعليم الدينى وانهم استداموا بذلك الصلة بين مختلف ولاياتهم العربية التى لم تفصل بينها حدود وكان نظام الحكم العثمانى فيها متشابها .
هذا فيما يتعلق بأثر الحكم العثمانى فى الربط بين البلدان العربية أما فيما يتعلق بما قيل من أن الدولة العثمانية كانت مسئولة عن الركود والتخلف اللذان حلا بالعالم العربي بعد الفتح العثماني فإننا لا يمكننا أن نجارى ذلك دون التعرض للأسباب التاريخية التى أدت إلية .
حقيقة أن العثمانيين بعد سيطرتهم على مختلف البلدان العربية قد فرضوا عليها نوعا من العزلة ومن ذلك أن الدولة بعد أن سيطرت على سواحل البحر الأحمر حولته إلى بحيرة عثمانية ومنعت دخول السفن الأوروبية إلية حرصا علي سلامة البقاع الإسلامية المقدسة التى فكر البرتغاليون فى الاعتداء عليها وبالتدريج سمحت الدولة للسفن الأجنبية بالإبحار حتى جدة وفى النهاية أصبحت تتجه إلى السويس حين عادت تجارة المرور من حديد فى أواخر القرن الثامن عشر طبقا لاتفاقيات فرنسا وبريطانيا مع ممالك مصر وهكذا أمكن كسر نطاق العزلة المفروضة على المشرق العربى .
وإذن فالعزلة التى فرضتها الدولة العثمانية على أملاكها العربية وغير العربية كان مبعثها الخوف الناتج عن الصراع المستمر بينها وبين دول العالم المسيحى وهكذا نجدها تفرض قيودا على دخول الأوربيين إلى أملاكها وتحدد إقامتهم فى الأماكن التى يقيمون فيها للتجارة أو لزيارة الأماكن المسيحية واليهودية المقدسة فى فلسطين وتفرض عليهم مراعاة العادات والتقاليد الإسلامية وتحرم على أبنائها السفر  ( دار الحرب ) خشية خدش الأذهان  ولأنها ظلت فترة طويلة لا تقيم سفارات فى العواصم الأوربية ومن ثم قلت معلومات العثمانيين والعرب عن العالم الأوربي الذى كان قد قفز قفزات كبيرة فى طريق التقدم والمخترعات والثورات الفكرية والدينية ومن ثم ما بدا من تأخر العرب والعثمانيين النسبى عن العالم الغربي إلى أن جاء الغزو الاستعماري الغربي للبلدان العربية ثم للأملاك العثمانية الأخرى وحينئذ أزيل الحاجز الذى أقامه العثمانيون بين أملاكهم وبين أوربا وإنفسح المجال امام السيطرة الأوربية على الأراضي التابعة للدولة العثمانية إلا لم يكن امام تدمير الدولة العثمانية ذاتها التى دب فيها الضعف لأسباب منها عدم متابعتها لنواحي التقدم التى شهدها الغرب منذ القرن السادس عشر وعلى أي حال فإن التأخر النسبى لأملاك العثمانية فى مقارنتها بالبلدان الأوربية المتقدمة لا يعنى أن الحكم العثمانى هو المسئول وحده عن ذلك إذ أن جهود الدولة العثمانية منذ قيامها قد كرست لمواجهة الهجوم الأوربي المضاد الذى تعرضت له الدولة وبذلك لم تتح لها الفرصة لمواكبة التقدم الذى طرأ على مجتمعات أوربا الغربية منذ عصر النهضة الأوربية وليس معنى هذا التخلف النسبى تدهور أحوال العالم العربى بالنسبة إلى ما كانت علية قبل الفتوح العثمانية فالعثمانيون لم يقوموا بتغيرات جذرية فى أوضاع البلدان التى وقعت فى قبضتهم ففيما عدا فرض السلطة العثمانية وأدواتها عليها فانهم آثروا ترك القديم على قدمه ولما كانوا يخشون التغلغل الأوربي فى أملاكهم فانهم فرضوا عليها ستارا حديديا شبيها بذلك الذى فرض على الاتحاد السوفيتي بعد تعرضه للغزو فى أعقاب ثورة أكتوبر 1917م ومن ثم فان تخلف العالم العربى تحت الحكم العثمانى ويشبة التخلف النسبى للكتلة الشرقية التى طبق عليها النظام الإشتراكى وفرضت عليها قيود شتى بقصد درأ الأخطار الغربية .
** وعلى أي حال فلما كانت الدولة العثمانية قد دافعت طويلا عن دار الإسلام وحافظت على الشريعة وسعت إلى توسيع رقعة دار الإسلام وحميته فلم يجد رجال الدين غضاضة فى إقرار الأمور على ماهية عليه فهناك اعتراف بشرعية السلطة وطاعتها طالما تحافظ على الشرعية هذا بالرغم تعرض العالم العربى لأطول فترات عزلته وشلله الاقتصادى والثقافى منذ الفتوح الإسلامية الكبرى وإذا كان انهيار أي مجتمع يتم حين تعجز القوى الاجتماعية عن أن تكون من الفاعلية بحيث تؤثر على تطوره أو توجهه فمن المحتم الاعتراف بان هذا الانهيار قد فعل فعله فى المجتمع العربى منذ وقت بعيد فلم يعد التعليم يضع نصيب عينيه أمل توجيه المجتمع نحو مثله العليا بل هبط إلى مجرد المحافظة على تمسك المجتمع بفرض التقاليد .             


         
 



                              










( العلاقات التركية العربية المعاصرة )

     أولا : تركيا والصراع العربى الإسرائيلي
   1- بداية التعارف و التعاون التركى الإسرائيلي 

** وبعد اعتراف تركيا بإسرائيل فى 28 آذار 1949م توطدت العلاقات التجارية والاقتصادية بين الدولتين حيث فتحت تركيا أسواقها امام البضائع الإسرائيلية كما وقعت الدولتان على اتفاقية تجارية فى تموز عام 1950 وقدرت المعاملات التجارية بينهما فى عام 1950م  ( 480 ألف $ )
وقد أجرى السفير الإسرائيلي فى أنقرة مباحثات مع وزارة الخارجية التركية فى تشرين الثانى عام 1954م وانتهت إلى الاتفاق على المبادئ الآتية :ـ
1)  ان يقوم بين الدولتين تعاون عسكرى يضمن لاسرائيل عدم الاعتداء عليها من احدى الدول الواقعة فى محيط منطقة الشرق الاوسط .
2)  أن يكون بين الدولتين تعاون عسكرى لرد أي اعتداء قد يوجه ضد منطقة الشرق الاوسط بصورة عامة وتركيا واسرائيل بصورة خاصة
3)    تطوير العلاقات الإقتصادية والتجارية بين الدولتين ةتبادل البعثات العسكرية والإقتصادية والثقافية بينهما .
4)    أن تقوم تركيا ببذل المساعى الحميده لدى جامعة الدول العربية بغية تسوية النزاعات بين اسرائيل والدول العربية
وقد ادلى أدلى فؤاد كوبورلو وزير الخارجية التركية بتصريح إلى سير جاك مارون مراسل وكالة الأنباء الفرنسية فى 6 كانون الأول 1954 حول موقف تركيا من الدول العربية وإسرائيل وسئل كوبورلو عن احتمال عقد اتفاقيات ثنائية مع دول عربية مثل العراق ومصر تتفق مع السياسة التى تتبعها تركيا اتجاه إسرائيل فأجاب قائلا " لا اعتقد بتاتا ان مثل هذه الاتفاقيات الثنائية إذا عقدت مستقبلا يكون آثرها غير متفق مع سياسة تركيا إزاء دولة إسرائيل لان العلاقات الطيبة التى حرصت تركيا على بقائها مع الطرفين المتنازعين لم يكن من آثرها فى الماضى الوقوف موقف الخصومة ضد أحد الطرفين وهذا ما سيسير العمل عليه فى المستقبل ..... واعتقد بان النتيجة المباشرة لأي تعاون يقع بين تركيا والدول العربية ستكون استبعاد هذه المخاوف والشكوك القائمة بين الطرفين إذ ان فى مقدمة الأهداف الرئيسية التى يرمى إليها هذا التفاهم هو تأكيد السلم ودوام الاستقرار فى الشرق الأوسط وفقا لمبادئ الأمم المتحدة .
** نستنتج من تصريح كوبورلو الحقائق الآتية :ـ
1)  ان ميثاق بغداد الذى جاء بعد هذا التصريح يتفق مع سياسة تركيا إزاء دولة إسرائيل وهى السياسة التى تميزت فى هذه الفترة لتوثيق الروابط الاقتصادية والعسكرية بين الدولتين .
2)    ميثاق بغداد من شأنه أن يطمئن مخاوف إسرائيل ويحقق لها الاستقرار فى الشرق الأوسط
3)    ان ميثاق بغداد يمهد لإدماج الدفاع العربى فى الدفاع الإسرائيلي
4)    ان ميثاق بغداد خطوة أولى لتوسط تركيا فى سبيل عقد الصلح بين العرب وإسرائيل
5)    ان ميثاق بغداد لن يغير موقف تركيا من شكاوى العرب ضد إسرائيل فى هيئة الأمم المتحدة
وفى هذه المرحلة التى جاءت بعد اعتراف تركيا بإسرائيل وبعد عقد اتفاقية التفاهم معها ظهرت فى الأفق فكرة بريطانيا فى إنشاء منظمة قيادة الشرق الأوسط وقد تبلورت هذه الفكرة فى مستهل عام 1950 وجعلت الدول الغربية من تركيا خير وسيلة للتغلغل فى أقطار الشرق الأوسط وذلك لردع أطماع السوفيت فى هذه المنطقة . [5]
وعليه فقد قامت بريطانيا باستمالة الولايات المتحدة وفرنسا إليها كما استمالت إليها تركيا التى كانت تأمل وقتئذ الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لأنها كانت مهددة من قبل الاتحاد السوفيتي وتعتقد أيضا انه فى حالة إيجاد حلف للشرق الأوسط باستطاعتها ان تقوم على مسك ميزان القوى فيه إذا تعذر ضمها لحلف شمال الأطلسي .
وقامت الدول الأربعة ( أمريكا وبريطانيا وفرنسا وتركيا ) مقترحات إلى مصر باعتبار ان موافقة الأخيرة على تأسيس هذه المنظمة يحفز الدول العربية الأخرى على الانضمام . كما قدمت الدول الأربع فى نفس الوقت مذكرة إلى الحكومة الأردني والمملكة العربية السعودية والعراق وسوريا ولبنان وإسرائيل للانضمام إلى هذه القيادة .
وقد قوبل مشروع قيادة الشرق الأوسط بمقاومة عنيفة من قبل الرأى العام العربى الأسباب الآتية :ـ
1)  ان الدول العربية ستصبح قواعد عسكرية للقوات الأمريكية والفرنسية والتركية بالإضافة إلى القوات البريطانية الموجودة فيها آنذاك .
2)    ان إشراك إسرائيل فى هذه القيادة معناه الاعتراف بواقع إسرائيل وهو أمرا لا يقره العرب .
وقد فشلت مقترحات الدول الأربع لسببين :ـ
1)  ان دول الغرب التى أنشأت حلف شمال الأطلسي على اساس اتجاهات ومصالح مشتركة أمكن عن طريقها إيجاد قياده عسكرية للحلف حاولت فى الشرق الأوسط ان تبدأ بتأسيس قيادة عسكرية فى خضم منازعات واضطرابات سياسية فلم يكن ممكنا ان تحقق شيئا .
2)    رفض الشعب المصرى قياداته هذه المقترحات . [6]
وعلى اثر هذا الرفض التام من الجانب العربى قام " جون فوستر دالس " وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق فى مستهل عام 1953م بزيارة عواصم الدول العربية بغية إنشاء مشروع الحزام الشمالي وبعد اطلاعه على أراء قادة المنطقة صرح قائلا " ان منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط هى فكرة للمستقبل اكثر منها فكرة ممكنة التحقيق فورا ، فان الكثير من بلدان الجامعة العربية مشتبكة فى نزعاتها مع إسرائيل أو مع بريطانيا أو فرنسا ولذلك لا تبدى اهتماما بخطر الشيوعية السوفيتية ........ وبينما تنتظر حكومة الولايات المتحدة إيجاد منظمة الأمن الجماعى للمنطقة فان باستطاعتها أثناء ذلك المساعدة فى تقوية الدفاع المشترك لتلك البلدان التى ترغب فى تقوية نفسها لا إحداها ضد الآخر أو ضد الغرب ولكن لتقاوم التهديد المشترك لكافة الشعوب الحرة ."
وركنت الدول الأربع بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا إلى أسلوب آخر بعد فشل مشروع قيادة الشرق الأوسط قد يوصلها إلى الغرض المنشود فظهرت فكرة المعاهدات الثنائية مع دول هذه المنطقة وإشراك باقى الدول فيها وعلية وقعت تركيا معاهدة مع باكستان فى 2 نيسان عام 1952م وهى تدعوا إلى تنمية العلاقات بين البلدين فى المجالات الاقتصادية والثقافية والفنية . [7] 
وبصفة عامة فات جون فوستر دالالس وزير خارجية الولايات المتحدة كان مهتما بفكرة تامين الحزام الشمالي ضد الاتحاد السوفيتي للمناطق التى تجاوره والتوفيق بين الحاجة إلى منطقة دفاعية فى الشرق الأوسط والربط بينها وبين حلف الأطلنطي فى الغرب وحلف جنوب شرق آسيا فى الشرق مع الاهتمام العميق بالاستقلال القومى الذى كانت الكيانات السياسية الجديدة فى المنطقة تحاول نيله . وتبعا لذلك فإن دالالس خلال زيارته للمنطقة فى مايو 1953م ناقش فكرة حلف يقام فى المنطقة لتنضم إليه بلاده . وكانت تركيا عضو الحلف الأطلنطي هى حجر الأساس فى هذا المشروع . أيضا فى كراتشى كان نيكسون نائب الرئيس الأمريكي يناقش الطلب الباكستاني بالمساعدة للحماية ضد الهند وفى النهاية فإن اتفاقا أمريكيا باكستانيا وقع فى عام 1954م وفى نفس العام وقعت تركيا مع باكستان اتفاقا مؤسسا على معاهدة صداقة سابقة فى عام 1951م لتبادل المعلومات فى حقل التكنولوجيا ولمساعدة كل للآخر فى إنتاج الأسلحة والذخيرة وكذلك فى حالة الهجوم وترك باب العضوية مفتوحا للبلاد الأخرى الراغبة فى الانضمام إليه . وفى نفس الوقت فإن نورى السعيد رئيس وزراء العراق وقع اتفاقية للمساعدة العسكرية مع الولايات المتحدة الأمريكية عام 1954 . ثم وقعت العراق فى 24 فبراير 1955 حلفا مع تركيا مشابها للاتفاق التركى الباكستاني الذى تضمن شروطا يفتح الحلف للبلاد التى ليست من الشرق الأوسط والمهتمة بأمن المنطقة أي المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكان هذا هو جوهر حلف بغداد .
كان لكل دولة هدفها الخاص من المشاركة فى الحلف الذى اختلف لدرجة كبيرة عن أهداف الدول الأخرى فقد أرادت تركيا ان تتخلص من إلتزاماتها نحو إنجلترا وحلف الأطلنطي وتؤمن جناحها الجنوبى الشرقى وباكستان أرادت ان تعزز دفاعها ضد الهند وان تتلقى مساعدة اقتصادية وتسليحا . أما نورى السعيد فكان يشعر ان التحالف مع حلف الأطلنطي من خلال تركيا قد يعطى العراق مركزا قياديا فى العالم العربى ويضمن دعمها ضد الاضطرابات الكردية ويقوى وضعها المساوم اتجاه إسرائيل فقد كان نورى السعيد يعتقد ان الصراع العربى الإسرائيلي ومشكلة قناة السويس يمكن ان تحل فى المستقبل القريب وان كل الدول العربية بعد القيادة العراقية سوف تنحاز إلى الغرب . ومن المصادفات فإن الحلف المعقود بين تركيا والعراق تضمن شرطا مقتضاه ان الموقعين يعترفون وينفذون خطة الأمم المتحدة الخاصة بتقسيم فلسطين ... كان هذا إلماحه مضادة لإسرائيل ومصممة لارضاء الرأى العام العربى .
قبل توقيع حلف بغداد زار عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا  بغداد عدة مرات ودمشق وبيروت حيث عرض عليهما ( لبنان وسوريا ) الانضمام للحلف . وكان رد الفعل منذرا بالسوء .  وكانت مصر ممثلة فى رئيسها جمال عبر الناصر الذى كان يحس بوجود فخ دبلوماسى رفض قبل ذلك بعام دعوة تركية لمناقشة القضية الأحلافية ورفض بعنف شرطا فى المعاهدة الإنجلوا مصرية ( 19 أكتوبر 1954م ) يسمح للبريطانيين باحتلال قناة السويس فى حالة الهجوم على البلاد العربية وأيضا على تركيا .
انضمت إنجلترا إلى حلف بغداد فى 4 إبريل 1955 ووقعت اتفاقية جديدة مع العراق تحل محل اتفاقية 1930 القديمة ، لتجعل المساعدة العسكرية متيسرة لها فى حالة الهجوم . وانضمت باكستان إلى الحلف رسميا فى 23 سبتمبر 1955 برغم من وجود حلف مشابه تماما موقع مع تركيا عام 1954 وانضمت إيران إلى الحلف فى 3 نوفمبر 1955م . وهكذا فإن منظمة دفاعية بدأت فعليا من خلال مبادرة الولايات المتحدة قد تجسدت بالكامل بإعطاء إنجلترا وضعا قياديا متميزا فيها وفى المشرق الأوسط ككل . ويحتمل ان الولايات المتحدة لم تكن سعيده بهذا الناتج ولم تتردد فى استئصال المملكة المتحدة من الشرق الأوسط عندما قدمت الفرصة نفسها عام 1956 .
 لقد خلق حلف بغداد صراعات عميقة ومطولة فى العالم العربى فقد شعر العرب انهم مهددون بالانقسام والاختراق بواسطة القوى الموالية للغرب وحاولوا اختراع إجراءات حامية مضادة فقد رفض تحرك مصرى لاستبعاد العراق من حلف الدفاع العربى مثلما استبعد المشروع السوري ـ المصرى ـ السعودي المضاد لإقامة حلف إقليمي دفاعى عندما عارضته الأردن ولبنان
وفى باندونج عام 1955لقى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ترحيبا كبيرا كزعيم من العالم الثالث بينما أصبحت تركيا معزولة بسبب دفاعها القوى عن حلف الأطلنطي وهجماتها الساخرة على عدم الانحياز وحياد الاشتراكية والشيوعية .
وزاد حلف بغداد من المشاعر الساخطة السورية اتجاه تركيا وكان هو العامل الأساسي الذى اجبرها على توقيع معاهدة عسكرية للقيادة الموحدة مع مصر فى 20 أكتوبر 1955. وفى نفس الوقت بدأ أعضاء هذا الحلف المشئوم يمارسون ضغوطا على الأردن للانضمام إلى حلف بغداد وفى زيارته للأردن أعطى جلال بايار رئيس الجمهورية التركية إيحاءا مبالغا فيه بالوعد بالدعم إذا تعرضت الأردن لهجوم إسرائيلي .
 وفى أعقاب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م اجتمع أعضاء حلف بغداد دونت دعوة إنجلترا وانتقدوها وطلبوا منها ان تعيد النظر فى عملها العدواني . ولو ان وزير الخارجية التركى لم يظهر تعاطفا نحو مصر متهما عبد الناصر بإثارة المشاكل ثم كان ان أعلنت إنجلترا فى النهاية انسحابها من مصر لتفادى النقد الموجه إليها من حلفائها الشرق أوسطيين . وعلى اثر حرب السويس 1956 فقد انتهى التواجد البريطانى كلية فى منطقة الشرق الأوسط وتركت المنطقة لاضطراب متزايد . ومع هذا فقد شعرت تركيا بالارتياح داخليا برحيل البريطانيين من الشرق الأوسط .
وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية منذ ذلك الوقت تمارس مسئولياتها فى المنطقة هذه المسئوليات التى تمثلت فى منع امتداد النفوذ السوفييتي والشيوعية فى المنطقة بصفة عامة وإيقاف تغلغل الناصرية إلى لبنان والأردن وكانت النتيجة هى صدور مشروع ايزنهاور الصادر فى 5 يناير 1957 والمصدق عليه من الكونجرس فى 9 مارس 1957 وبينما قبل أعضاء حلف بغداد هذا المشروع فان المملكة المتحدة غير متحمسة له باعتباره نوعا من التطفل فى منطقه تعتبرها منطقة نفوذ تقليدي هى الشرق الأوسط واشتعلت المنطقة بالتدخل الأمريكي اللاحق لتطويق الاتجاهات الخطرة على المنطقة من وجهة نظرها وتوافد المندوبون الأمريكيون لتوجيه النصح لدول العربية باستثناء مصر وسوريا والأردن واستغرقت المنطقة فى مناورات واتهامات ومؤامرات من كل نوع .
أفرزت هذه الأوضاع الناجمة عن حلف بغداد انقسام بلدان المنطقة انقساما خطيرا وأصبحت سوريا على سبيل المثال فى عيون الأتراك مركزا مسلحا للعدوان الهادف إلى قلب الأنظمة القائمة فى المنطقة واعتبر حزب البعث الحاكم فيها جبهة شيوعية وشرعت تركيا فى حشد قواتها على الحدود وجرت بعض الغارات البرية والجوية وتبادل إطلاق النار داخل سوريا وبدا الاتحاد السوفيتي فى ذلك الوقت فى شكل المدافع الوحيد عن سوريا وأرسلت مذكرات تهديديه لتركيا وتحركت قوات سوفيتية اتجاهها وتأخر الإفراج التركى السوفيتي المرتقب .
ولقد آلم تركيا ان تتحمل وطاءة النقد الناتج عن السياسات العربية التى لا يمكن التنبؤ بها واضطرت إلى التراجع فأبلغت لبنان بنواياها السلمية اتجاه سوريا وأرسلت وفدا إلى المملكة العربية السعودية للحصول على واساطتها بينها وبين سوريا .
وبصفة عامة فقد جاءت نهاية الحلف فى مارس 1959م عندما أعلنت العراق ترك عضويتها فيه ثم تم نقل الحلف إلى أنقرة بتركيا وتحول اسمه إلى منطقة الحلف المركزى فى أغسطس 1959م واصبح اهتمامه منذ ذلك الوقت محصورا فى مشاكل بلاد الحزام الشمالي وفى نفس الوقت سببت السياسة التركية فى الشرق الأوسط إلى جانب استخدام القواعد العسكرية فى تركيا بواسطة القوات الأمريكية للنزول فى لبنان عام 1958م سببتا أول خلاف كبير بشأن السياسة الخارجية التركية بين الأحزاب السياسية هناك . وقد أظهرت المعارضة التركية بوضوح تعاطفها مع الثورة العراقية وإطاحتها بنوري السعيد الذى اعتقدوا ان مصيره قد ينذر عدنان مندريس ويقنعه بالامتناع عن اتباع سياساته الشمولية .
وعلى هذا فقد وضع تفكك حلف بغداد نهاية لجهود تركيا النشطة لتعزيز سياسة شرق أوسطية بين جيرانها العرب مناسبة لمصالح حلف الأطلنطي . كانت هذه السياسة فشلا ذريعا لأنه لا تركيا ولا ناصحوها الغربيون فهموا طبيعة التحولات الاجتماعية والسياسية التى كانت تجد مكانها فى آسيا وأفريقيا .  
********************************

           2ـ تطورات العلاقات التركية ـ الإسرائيلية وانعكاساتها على العلاقات التركية ـ العربية  [8]

أكدت التطورات المتسارعة فى العلاقات التركية ـ الإسرائيلية وبخاصة جوانبها العسكرية والاستراتيجية والأمنية صعوبة فصل هذه العلاقات عن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة فى الشرق الأوسط الجارى تطويرها منذ نهاية حرب الخليج الثانية وتزايد أهمية طرفى التحالف التركى ـ الإسرائيلي فى تحقيق أهداف هذه الاستراتيجية وتحديا ما يتعلق منها بإعادة ترتيب الأوضاع وبناء ترتيبات أمنية إقليمية فعلية جديدة فى المنطقة من ناحية وأكدت من ناحية أخرى ما تنطوى علية هذه العلاقات من تهديدات جادة آنية وبعيدة المدى للأمن القومى العربى عموما و أمن دول عربية معينه كسوريا والعراق وكذلك مصر خصوصا فضلا عن تأثيراتها الآنية والمستقبلية السلبية على توازن القوى فى المنطقة ( المختل أساسا ) فى غير صالح الجانب العربى ودورها السلبي فى التوصل إلى سلام حقيقى فى المنطقة . ويمكن توضيح مؤشرات تطور هذه العلاقات ومخاطرها على المنطقة العربية فى النقاط التالية :ـ
1)    عوامل اندفاع تركيا فى تطوير علاقاتها مع إسرائيل :ـ
ولعل أهم هذه العــــوامـــل ما يلــــى :ـ
         أ‌-  الصراع الداخلى فى تركيا بين التيار الإسلامي وقوى إسلامية أخرى وبين التيار العلمانى ممثلا فى المؤسسة العسكرية والأحزاب العلمانية . فخلال هذا الصراع كافة سعت هذه المؤسسة إلى تطوير العلاقات مع إسرائيل " الحلف الإستراتيجي الأول لأمريكا فى الشرق الأوسط " باعتبار ذلك وسيلة لتأكيد الطابع العلمانى الغربي للدولة التركية وفرض دلك كأمر واقع يصعب تغييره أو تحديه . وفى ضوء هذا العامل وغيرة قد يمكن تفسير بلوغ التعاون بين إسرائيل وتركيا ذروته فى ظل حكومة أربكان الائتلافية على الرغم من توجهاته الإسلامية وفى ظل حكومة يمينية إسرائيلية متطرفة منذ وصول الليكود فى السلطة فى حزيران يونيو 1996م فإتفاق التعاون العسكرى الإستراتيجي الأول مع إسرائيل المبرم فى 23/2/1996 وكلن ثمرة مباحثات سرية جرت فى إسرائيل فى تشرين الثانى نوفمبر 1995 بين مسئولى الدفاع الإسرائيليين ووفد عسكرى تركى برئاسة الجنرال شفيق بير نائب رئيس الأركان تم تدعيمه باتفاق ثان فى 28/8/1996م بشان مشروع تحديث إسرائيل 54 طائرة فانتوم تركية وباتفاق ثالث فى 1/12/1996م بشان المشروع نفسه وتنظيم تدريبات ومناورات مشتركة وفى اتفاق رابع فى 8/4/1997 بشان خطة " تقدير مخاطر إيران وسوريا على البلدين " وتم توقيع اتفاقات أخرى عدة بشان مشروع التصنيع العسكرى وكذلك التعاون الاقتصادى والتجارى .
        ب‌- المشكلات التركية الأخرى ولا سيما العنف بتعبيراته المختلفة الكردى واليسارى والإسلامي تشكل بدورها عاملا مهما لتطوير العلاقات مع إسرائيل لتقدير الأوساط التركية المعنية ـ بمكافحة الإرهاب إمكانية الاستفادة من الخبرات الإسرائيلية فى التعامل مع هذه المشكلة والتى تعود بالأساس من وجهة نظر تركيا إلى عوامل خارجية : الوضع فى شمال العراق وادعاء ارتباطات سوريا بحزب “PKK” وإيران بالمنظمات الكردية والإسلامية التركية المتطرفة .  
        ت‌- توترات العلاقات التركية السورية بسبب قضايا عديدة كالمياه و أمن الحدود والأسكندرونة لا تشكل فحسب عاملا مهما فى تطوير علاقات تركيا بإسرائيل ولكن أيضا يمكن فى ضوئها تفسير ازدواجية الموقف التركى إزاء عملية السلام والذى يتنازعه اتجاهان متناقضان :
§ الرغبة والترحيب بتحقيق تسوية سياسية " شاملة " للصراع العربى ـ الإسرائيلي لما سوف يعقب تلك التسوية أو يواكب خطوات متواضعة لتحقيقها من بناء ترتيبات اقتصادية إقليمية تستفيد منها تركيا فى مجالات المياه والتعاون الاقتصادى والمالى والتجارى وغيرها .
§ خوف تركيا من سلبيات معينه ستعنيها فى حالة التوصل إلى هذه التسوية خصوصا على المسار السورى فى ظل المشكلات العديدة المثارة مع سوريا . ويبدوا أن هذا الاتجاه أقوى من سابقة وسيظل مستقبلا الأكثر تأثيرا فى سياسة تركيا مما يفسر تقدير خبراء استراتيجيين أمريكيين فى آب / أغسطس 1997م " أن تخوف تركيا من أنها قد ترغم فى حالة التوصل إلى سلام شامل فى المنطقة بين العرب وإسرائيل على الدخول فى اتفاقيات مع جيرانها السوريين والعراقيين لحل مشكلة المياه التى تستخدمها حاليا كورقة ضغط فى تعاملاتها معهم يمثل أحد أسباب دخولها فى تحالف عسكرى مع إسرائيل بما يحقق مصالحها لان هذا التحالف قد يزيد من تعقيدات التوصل إلى حل سلمى لمشكلة الشرق الأوسط .
        ث‌- أهداف تركية أخرى من التعاون / التحالف مع إسرائيل على الرغم من تحفظ بعضهم على أن تركيا وهى بصدد تعاونها مع إسرائيل إنما تريد وتبحث عن دور لها فى المنطقة عن طريق إسرائيل أو أنها تحاول الاستفادة من الدعم الأمريكي عن طريق إسرائيل إذ أن لها علاقات قديمة مع الولايات المتحدة قبل قيام إسرائيل بل أن إسرائيل تمثل منافسا لتركيا إلا أن هذا التحفظ لا ينفى حقيقة وجود هذين الهدفين :
§ الدور التركى فى الشرق الأوسط وعلى الرغم من أهمية الوضع الجيواستراتيجى لتركيا ولا سيما بحكم حدودها المشتركة مع ثلاث دول ( سوريا والعراق وإيران ) يمكن أن تمثل تهديدا للمصالح الأمريكية فى المنطقة لا يمكن فصلة عن الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة والتى لها أهدافها الرئيسية حماية إسرائيل . وبالتالى فإن نهوض تركيا بدور مهم فى أي " ترتيبات أمنيه إقليمية " يتوقف فى الأساس على مدى متانة علاقاتها بكل من أمريكا وإسرائيل .
§ انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوربي يشكل هدفا آخر لتركيا من توثيق تعاونها مع إسرائيل باعتباره وسيلة لكسب مساندة أمريكا واللوبى الصهيونى فيها لموقفها سواء بشأن خلافاتها العديدة مع اليونان أو بشأن إحجام الاتحاد الأوروبي عن قبول ضمها إلى عضويته الكاملة .
2)    العلاقات الاقتصادية التركية ـ الإسرائيلية :
من ابرز مؤشرات التطورات الأخيرة فى هذه العلاقات :
         أ‌-  اتفاق التجارة الحرة بين البلدين والموقع فى آذار/ مارس 1996م اقره الكنيست فى العام نفسه بينما اقره البرلمان التركى فى 4/4/1996م . وينص على إعفاء السلع المتبادلة بين البلدين من الضرائب والرسوم الجمركية وزيادة حجم التجارة بينهما خلال السنوات الثلاث المقبلة إلى مليارى دولار سنويا بالمقارنة ب (448 مليون دولار عام 1996م .
        ب‌- اتفاق النقل بين البلدين وقعه ليفى وتشيللر فى انقره فى 9/4/1997م على أن يتم تنفيذه فى حالة " تطبيع العلاقات فى الشرق الأوسط " نظرا لوقوع سوريا بين البلدين .
        ت‌- بيع المياه : بحث ليفى خلال زيارته لتركيا فى 8 ـ 9 نيسان / أبريل 1997م مشروعا تركيا لبيع فائض مياه أحد أنهارها ، مانوت لإسرائيل وهو مشروع مثار منذ منتصف 1990م ولم يتم حتى الآن التوصل إلى اتفاق نهائي بشأنه نتيجة الخلاف بين البلدين حول تسعير المياه .
        ث‌- مجالات أخرى : بحث ليفى ( وزير خارجية إسرائيل فى ذلك الوقت ) أيضا خلال هذه الزيارة سبل زيادة الاستثمارات والمشروعات المشتركة بين البلدين عبر تفعيل اللجنة الاقتصادية المشتركة.
3)    التعاون التركى ـ الإسرائيلي فى المجالات الأمنية ( مكافحة الإرهاب والاستخبارات ) :
يتم هذا التعاون بموجب اتفاق وقع خلال زيارة  تشيللر (رئيسة وزراء تركيا فى ذلك الوقت ) لإسرائيل فى 3،5 تشرين الثانى /نوفمبر 1994م للتعاون بين البلدين فى مجال مكافحة الإرهاب واستفادة تركيا من خبرات إسرائيل فى هذا المجال ، وبموجب بعض البنود المعلنة لاتفاق التعاون / التحالف العسكرى الأول المبرم فى 23/2/1996م كتلك المتعلقة بإنشاء منتدى الحوار الإستراتيجي بين البلدين لرصد الأخطار المشتركة التى تهدد أمنهما من إقامة آلية مشتركة لمواجهتها ، وامتداد هذا الحوار ليشمل مجالات تتعلق بأنشطة المخابرات وإقامة أجهزة تنصت فى تركيا لرصد أي تحركات عسكرية فى سوريا وإيران وجمع المعلومات عنهما ، فضلا عن اتفاق " تقدير المخاطر " المبرم فى أنقرة فى نيسان / أبريل 1997م بنصه على ان يتم التقدير المشترك للمخاطر كل ثلاثة شهور على مستوى وزراء الدفاع ورؤساء الأركان .
وكان من ابرز أمثلة التعاون بين البلدين فى المجالات الأمنية والاستخبارية فى مواجهة سوريا قيام إسرائيل فى الأسبوع الأول من أيار /مايو 1997م بتزويد تركيا بمعلومات فنيه مهمة عن إمكانيات طائرات ( ميج 92) الروسية بعد دراستها لثلاث طائرات منها تلقتها من ألمانيا حتى تستغل تركيا هذه المعلومات فى تحديث النظام الهجومى والتسليحى لطائراتها ( أف 16 ) لتحييد ميزة هذه الطائرات ـ وتقدر بأربعين طائرة افضل مقاتلات لديها .
4)    التعاون التركى ـ الإسرائيلي فى الصناعات العسكرية والمشروعات العسكرية المشتركة :ـ
ابرم البلدان حتى نهاية حزيران / يونيو1997م 14 اتفاقا فى هذا المجال بعضها جار تنفيذه بالفعل ، والآخر قيد البحث والأعداد فضلا عن مشروعات لا حقه خصوصا أبان زيارة شاحاك " رئيس الأركان الإسرائيلي " لتركيا ومنها :
§ مشروع مدته 5سنوات لتحديث 54 طائرة ( أف 4 ) تركية بتكلفة قدرها 600 مليون دولار وقد وافقت البنوك التجارية الإسرائيلية لتمويل المشروع وتم تنظيمه نهائيا بموجب اتفاق 5/12/1996م
§ مشروعان اتفق عليهما شفيق بير فى إسرائيل فى 5/5/1997م أولهما يتعلق بتحديث الأخيرة للدبابة التركية القديمة من طراز " ام 60 سى " وثانيهما مشروع مشترك لإنتاج 800 دبابة إسرائيلية " ميركافا 3 " فى تركيا . كما اقترح بير فى 4/5/1997م أن تزود إسرائيل بلاده بعدد من  صواريخ " ارو" المضادة للصواريخ البالستية بدعوى " ردع أي تهديد من جانب إيران التى تملك صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس بيولوجية و كيماوية .
§ مشروع مشترك تم الاتفاق عليه فى 16/5/1997م بتكلفة قدرها 500 مليون دولار لإنتاج صواريخ جو/ارض من طراز " بوب أي 2 " ومداها 150 كم  وأنشئ لتنفيذه اتحاد شركات / كونسرتيوم بين شركتين تركيتين وشركة " رافائيل " الإسرائيلية لتطوير الأسلحة ويتوقع أن تتسلم تركيا من إسرائيل أول صاروخ منها بحلول عام 2000م ومن المنتظر أيضا أن تحصل تركيا من إسرائيل 50 صاروخا من هذا الطراز .
§ مشروعات مشتركة اتفق عليها فى آب /أغسطس 1996 لإنتاج طائرات للمراقبة من دون طيار وأخرى بطيار وتوصلت الشركتان التركية والإسرائيلية المعنيتان فى 22/8/1997م إلى تصنيع طائرة من الأولى فى وزنها 135كجم وقادرة على التحليق طيلة 8ساعات متواصلة على ارتفاع 20 ألف قدم ، وان تحمل أجهزة متطورة للرصد نهارا وليلا ويمكن تزويدها بأنظمة إلكترونية للقتال وجار تطوير هذه الطائرة التى يستخدمها الجيش الإسرائيلي فى عملياته العسكرية .
§ مشروعات مهمة تم الاتفاق عليها أو اقتراحها من الجانب الإسرائيلي خلال زيارة شاحاك لتركيا فى تشرين الأول /أكتوبر 1997م ومنها الاتفاق على إنتاج صواريخ " دليلة " الإسرائيلية طويلة المدى 500 كم وذات قدرة توجيه عالية فى ضرب الأهداف والاتفاق على تزويد تركيا بصواريخ جوـ جو من طراز " 4فانتون " من إنتاج مصانع " رافائيل " الإسرائيلية تقديم مقترحات إسرائيلية بالتعاون بين الجانبين فى تحديث الطائرات التركية من طراز " أف 5 " وإنتاج الدبابة "2000" وأنظمة الإنذار المبكر " فالكون " والبنادق المستخدمة من قبل وحدات المشاة التركية ،فضلا عن دعم شركة " اسيبات " الإسرائيلية فى تنافسها مع شركات أخرى على الفور بعقد تركى يشمل مبدئيا نحو ألف مركبة مدرعة . 
** مخاطر هذا التعاون على المنطقة العربية عديدة ومنها :ـ
v   الأثر الإيجابي لهذا التعاون فى تطوير الصناعات العسكرية الإسرائيلية وزيادة أسواقها التصديرية وتطوير خبراتها فى مجالات تطوير الأسلحة وتحديثها كالطائرات المقاتلة وغيرها
v   اثر هذا التعاون فى دعم اختلال التوازن القوى فى غير صالح الجانب العربى عموما إزاء طرفي التحالف ( إسرائيل وتركيا ) مما يدفع بعضهم إلى القول " بان عملية إدخال الأنظمة الإلكترونية والمعلوماتية على الأسلحة التركية والإسرائيلية ستشكل ميزة فريدة ـ لطرفي التحالف .
5)    التعاون بين القوات البحرية والجوية والمناورات الإسرائيلية التركية : :
** وتمثلت ابرز خطوات البلدين لدعم هذا التعاون فيما يلى :
         أ‌-  تطوير التعاون بين القوات للبلدين بموجب اتفاق شباط/ فبراير 1996م أي استخدام المجال الجوى لكل منهما والقيام بتدريبات مشتركة والسماح للطائرات الحربية الإسرائيلية بالوجود فى قواعد تركية معينه واستخدامها أهمها " إنجيرليك" " وفان" و" قونيا " لأجراء تدريبات فى الأجواء التركية فضلا عن تبادل الطيارين الحربين بين البلدين " .
        ب‌- دعم التعاون بين القوات البحرية للبلدين : وهو ما نظمه أيضا اتفاق شباط /فبراير 1996م واتفاق كانون الأول / ديسمبر 1996م
        ت‌- إجراء مناورات بحرية وجوية مشتركة و أكبرها على الصعيد الثنائي مناورات " ذئب البحر 1997م " وجرت منذ بداية وحتى نهاية حزيران /يونيو 1997م وامتدت بين بحر إيجه وحتى حدود المياه الإقليمية السورية مرورا بالمجالين الجوى والبحري لقبرص وشاركت فيها سفن وطائرات حربية تركية " أف 4" وإسرائيلية ومروحيات خيو المصنعة فى إسرائيل بترخيص من أمريكا .

q       البلدان العربية " المستهدفة بالاتفاق التركى الإسرائيلي :
على الرغم من اتساع نطاق الدول المستهدفة بالاتفاق التركى الإسرائيلي ليشمل بلدانا عربية وأخرى مجاورة غير عربية وتحديدا إيران فإن ذلك لا ينفى أن " المستهدف الرئيسي به هو الجانب العربى وتحديدا سوريا والعراق وكذلك مصر على الرغم من معاهدة السلام بين الأخيرة وإسرائيل وعلاقاتها السياسية والاقتصادية " الطيبة " مع تركيا . ويرجع ذلك إلى غير اعتبار فمن ناحية تشوب علاقات البلدان العربية الثلاثة أو بعضها بطرفي الاتفاق الكثير من المشكلات أو على الأقل التوترات الكامنة ولو بمعنى التنافس غير المعلن على الدور الإقليمي الرئيسي فى المنطقة فى مرحلة ما بعد التسوية ولعل هذا ينطبق على مصر بوجه خاص سواء فى علاقاتها بإسرائيل أو تركيا . ومن ناحية ثانية فإن البلدان الثلاثة بما فيها العراق تمثل أهميه كبيرة باعتبارها مراكز ثقل أو مفاصل للنظام الإقليمي العربى المراد استبداله بنظام آخر شرق أوسطي من قبل آخرين من بينهم إسرائيل والولايات المتحدة وكذلك تركيا ومن الأمور المثيرة للانتباه فى هذا الصدد ما يلى [9]
         أ‌-  أن استراتيجية إسرائيل العسكرية القائمة على الاحتفاظ بتفوقها العسكرى وما يسمى بالدرع الإستراتيجي النووي تجعلها لأمد غير منظور الخصم الرئيسى للأمن القومى العربى ولاسيما لبعض الدول العربية حتى فى حالة تسوية الصراع العرب ـ الإسرائيلي على اساس انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة كافة وقيام السلام على تعاقدات والتزامات متبادلة . وينطبق ذلك بوجه خاص على البلدان العربية الثلاثة التى تشكل من وجهة نظر إسرائيل تهديدا أمنها طبقا لما ورد فى تقرير " المدى الزمنى المنتظر للسلام العربى ـ الإسرائيلي " الصادر عن معهد "جافى " للدراسات الاستراتيجية فى جامعة تل أبيب والمقدم إلى الحكومة الإسرائيلية فى شباط / فبراير 1995م .
        ب‌- أن تلهف إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة وبعض البلدان العربية على إقامة ترتيبات إقليمية شرق أوسطية على الصعيدين الاقتصادى والأمني وعلى زعم الفتور النسبى فى هذا التلهف خصوصا من جانب بعض البلدان العربية بسبب الموقف المتشدد لحكومات إسرائيل إزاء عملية السلام تقابله ضغوط مضادة من جانب سوريا ولبنان المقاطعان للمفاوضات متعددة اقتناعا بعدم جدوى بحث مثل هذه الترتيبات قبل تحقيق السلام بمعناه الحقيقى ومن جانب مصر بدرجة ما ولاسيما فى ظل إثارتها تعقيدات معينة بالنسبة لإسرائيل كتلك المتعلقة باحتكار إسرائيل للخيار النووي وتعنت حكومتها فى مفاوضات التسوية على المسار الفلسطيني وغيرة .
        ت‌- أن سوريا تبدوا اكثر البلدان العربية استهدافا باتفاق التعاون العسكرى التركى ـ الإسرائيلي وذلك نتيجة اعتبارات عدة من بينها غلبة النمط الصراعى على علاقاتها بطرفيه ويتأكد ذلك بالنظر إلى الفترة القليلة اللاحقة لإعلان هذا الاتفاق شهدت اكثر من سلوك قولى أو فعلى استفزازى موجه ضد سوريا من جانب تركيا وكذلك إسرائيل .  

    ثانيا : موقف تركيا من بعض القضايا العربية

        1ـ مشكلة قناة السويس وموقف تركيا منها  [10]

** ان مشكلة قناة السويس كانت تحص تركيا عن كثب وذلك لسببين :
1)    ان بريطانيا دبرت الهجوم على مصر عام 1956 كانت عضوا فى حلف بغداد
2)    ان تركيا كانت من بين الدول الموقعة على اتفاقية القسطنطينية عام 1888م لتنظيم الملاحة فى قناة السويس
3)  انه كان يحق للقوات البريطانية بالعودة إلى مصر فى حالة وجود تهديد خارجي على أحد الأقطار العربية أو تركيا وذلك طبقا لمعاهدة 1954م التى عقدت بين مصر وإنجلترا
وقد بحثت مشكلة قناة السويس فى تركيا على أنها مشكلة سياسية اكثر مما هى قانونية . وعند بحث القضية فى آب 1956 فى مؤتمر لندن الأول دعيت تركيا للحضور فيه وقد تحدث فى هذا المؤتمر رئيس وفد تركيا معلنا عن وجهة نظر حكومته حيث قال ان الحكومة التركية تؤيد بحرارة الدول العربية وتود مخلصة ان ترى مصر مستقلة حرة وان تكون بعيدة عن الاعتداءات والضغوط الأجنبية وإذا لم ندرك بان مستقبل مصر وحريتها فى خطر لما اشتركنا فيه .  وأيدت تركيا فى هذا المؤتمر مشروع دالس مع اقتراح بعض التعديلات حيث جاء فى مشروع دالس مايلى : " ان الحكومات الموافقة على هذا التصريح والمشتركة فى مؤتمر لندن قد أقلقها الموقف الخطير الخاص بالقناة . وهى إذ تسعى إلى إيجاد حل سلمى يتفق وأغراض الأمم المتحدة ومبادئها وإذ تعترف بان الحل السليم يجب ان يحترم حقوق مصر المستمدة من سيادتها بما فى ذلك حقها فى تعويض عادل منصف نظير استخدام القناة ويضمن من جهة أخرى القناة باعتبارها ممرا دوليا طبقا لاتفاقية الأستانة الموقعة فى 28 أكتوبر 1888م ..........ان هذه الحكومات تتفق فى التعبير عن وجهت نظرها بما يأتي : أنها تؤكد كما تنص على ذلك مقدمة اتفاقية 1888م وجوب إنشاء نظام محدد لضمان حرية الملاحة فى قناة السويس البحرية فى جميع الأوقات ولجميع الدول "
وقد تمخض عن مؤتمر لندن بعد ان استمر أسبوعا كاملا انقسام فى الرأى فرأت ثمانى عشرة دولة اقتراح تكوين لجنة دولية لإدارة القناة وكانت تركيا وعارضت هذا الاقتراح كلا من الهند وإندونيسيا وسيلان والاتحاد السوفيتي حيث أيدت هذه الدول حق مصر فى التأميم والأشراف على قناتها كدولة ذات سيادة .
وفى مؤتمر لندن الثانى الذى عقد فى أيلول عام 1956 دافعت تركيا عن مشروع جمعية المنتفعين بقناة السويس الذى قدم من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبعد إنشائها أصبحت تركيا من الدول المشاركة فيها ان هذا الموقف الذى وقفته تركيا اتجاه مصر من قضية السويس هو موقف يثير الدهشة لان تركيا صاحبة المضايق قد بذلت قصارى جهدها للتخلص من تجريد مضايقها من التسلح وإحكام الأشراف الدولى وتمكنت فى النهاية الوصول إلى مرماها بموجب معاهدة مونترو عام 1936م وعقب العدوان الثلاثى على مصر فى 29 تشرين الأول 1956م تحدث جلال بايار رئيس الجمهورية التركية فى المجلس الوطنى التركى فى 1 تشرين الثانى 1956 قائلا " نشهد اليوم الصورة الأليمة فى منطقة الشرق الأوسط الذى أحدثها بعض الحكام الذين يرمون إيقاع شعوب هذه المنطقة فى صراع دائر فيما بينها كى يتثنى لها البقاء فى المنطقة لاستثمار خيراتها وإذلال شعوبها "
وصرح فطين رشدي زورلو وزير خارجية تركيا فى مؤتمر صحفى عقده فى كراجى فى 12تشرين الثانى 1956م " ان التدخل الانكلوا فرنسى فى الحرب الإسرائيلية المصرية قد ساهم على وقف إطلاق النار .
وقال ادهم مندريس وكيل وزارة الخارجية التركية فى الكلمة التى ألقاها فى المجلس الوطنى التركى فى 28 كانون الأول 1956م : " ان القادة المصريين حينما أحدثوا مشكلة قناة السويس ، أرادوا ان يجعلوا من هذه المشكلة ، كفاحا بين الشرق والغرب ، وبين آسيا وأفريقيا ، وحتى اعتبروا أنفسهم حماة الدول العربية والعالم الإسلامي ، ومنقذي الشرق كله ، ونجحوا فى ذلك إلى حد ما ، وذلك بمساعدة الدعاية الشيوعية المستمرة لهم . ولو ان أحدا تطاول باللسان ضد قادة مصر ، مهما كانت الأسباب اعتبروا ذلك اعتداءا على شعب مصر والشعوب العربية والإسلامية قاطبة ، بل استقلال الشرق كله "
فى الواقع ان هناك أمورا ترسم علامات استفهام كبيرة فى السياسة الخارجية التركية ، ويتولد هذا الاستفهام عادة من الخطاء الذى تقع فيه ، والناجم عن عدم تفهم القادة الأتراك للأنظمة الجديدة فى بعض الدول العربية ، أو عن تضخم شعور الخطاء اتجاه هذه الأنظمة .  ان اشتراك تركيا مع الغرب خلال السنوات العشر من عام 1960:1950 فى الضغط على بعض الدول العربية ، قد أدى إلى نوع من التوتر فى العلاقات بينها وبين البلدان العربية.
هذا وقد اجتمعت دول حلف بغداد فى طهران فى 7 تشرين الثانى 1956 باستثناء بريطانيا لبحث الحالة المضطربة السائدة فى الشرق الأوسط وصرح فطين رشدى زورلو وزير خارجية تركيا قائلا : " لزاما على حلف بغداد ان تبذل مساعيها الحميدة فى حل مشكلة قناة السويس " وقد خرج عن هذا الاجتماع البيان التالى والذى جاء فيه " لقد توصلت الدول الأعضاء فى حلف بغداد إلى قرار يدعوا إسرائيل إلى التخلى عن أغراض الهجومية اتجاه مصر وان تنسحب من جميع الأراضي المصرية المحتلة وان تطلق فورا سراح جميع الأسرى المصريين " هذا وقد دعا اجتماع رؤساء الوزراء هيئة الأمم المتحدة إلى وضع حدا للتدخل الانكلوفرنسى الإسرائيلي وسحب جميع القوات الغازية من الأراضي المصرية ، حيث اعتبروا هيئة الأمم المتحدة أعلى هيئة دولية ومسئولة بالذات عن السلم والرفاه كما اعتبروا هذا الهجوم على مصر تهديدا للسلام الدولى ورفاة الشعوب .
وخلاصة القول يتضح موقف تركيا بجلاء اتجاه مشكلة قناة السويس المصرية والذى اتضح من البيانات الرسمية لرئيس تركيا ووزارة الخارجية التركية والذى يمثل نوعا من التبعية للغرب فى توجههم العدائي اتجاه العرب ومصر بصفة خاصة .
                               *****************************                                                                                                                           

         2ـ مشكلة الموصل فى العلاقات العراقية ـ التركية [11]

** ارتبط قيام هذه المشكلة وتطورها بحقيقتين هما :ـ
1)  وجود اقليه تركية يعتد بها فى المنطقة التى ادعت تركيا بتبعيتها وتشير الإحصائيات ان عدد هؤلاء فى أعقاب الحرب ( 1919 : 1921 ) بلغ 339 ألفا فى ولاية الموصل 146960 وفى اربيل 15000 وفى كركوك والسليمانية 67040 وفى المدن الأخرى 110000 .
2)  ما كان معروفا من ثراء المنطقة المتنازع عليها بالنفط الأمر الذى حاولت معه بريطانيا قبل الحرب العالمية الأولى ان تحصل على امتياز البحث عنه ، فقد أسست وقتذاك شركة " النفط التركية " وحصلت على وعد من الصدر الأعظم فى 28 يونيو عام 1914م بالبحث عن مصادره فى الموصل وبغداد وإن توقف ذلك نتيجة لنشوب الحرب .
** وتأسيسا على هاتين الحقيقتين بدأت مشكلة الموصل . وكانت البداية قد حدثت خلال المفاوضات لعقد معاهدة لوازن التى لم تسوى مشكلة الحدود العراقية ، التركية وعرجت اكثر من مادة من المعاهدة على المشكلة .  ففى الفقرة الثانية من المادة الثالثة نصت على ان يعين خط الحدود بين تركيا والعراق بترتيب ودى بين تركيا وبريطانيا العظمى خلال تسعة شهور ، وإذا لم يتوصلا إلى اتفاق بينهما خلال تلك المدة يرفع النزاع إلى مجلس عصبة الأمم .
كما نصت نفس الفقرة أيضا على تعهد الحكومتين بان لا يحدث أي منهما أية حركة عسكرية أو غير عسكرية قد تغير باى شكل فى الحالة الراهنة فلا الأراضي التى يتوقف مصيرها النهائى على ذلك القرار . وفى المادة 16 من المعاهدة تنازلت تركيا بمقتضاها عن كافة حقوقها فى الأراضي الواقعة خارج الحدود التى عينت فى المعاهدة .
وبدا البحث عن الترتيب الودى فى أعقاب جلاء الخلفاء عن استانبول من خلال جلسات متتالية بين القائم بالأعمال البريطانى فى تركيا ، المستر هندرسون ، وعدنان بك ممثلا للجانب التركى ، وكان واضحا ان الجانب التركى يسعى إلى التسويف توهما منه ان السقوط الوشيك لحكومة لويد جورج المتشددة وقدوم حكومة علمانية سوف يؤدى إلى حصوله إلى شروط افضل . وعموما فبعد تسويفات طويلة من الجانب التركى اتفق الطرفان على عقد مؤتمر فى القسطنطينية ( استانبول ) فى مايو 1924م شارك فيه وفدان ... بريطاني برياسة السير برسى كوكس  وشارك فيه طه الهاشمى رئيس أركان الجيش العراقى ، وتركى برئاسة فتحى بك رئيس المجلس الوطنى الكبير . ومنذ بداية المؤتمر كان واضحا تناقض موقف الطرفين ، فقد برز الجانب التركى مجموعة من الحجج العرقية والجغرافية والعسكرية التى تخول لتركيا ضم الموصل وفى محاولة ظاهرة لإحراج المركز العراقى طالب الأتراك باستفتاء الأهالي فى المنطقة المتنازع عليها . بالمقابل آثار الجانب البريطانى اكثر من قضية منها قضية الآشوريين الذين استنجدوا بالحكومة البريطانية للبقاء كجماعة متماسكة داخل حدود العراق وان اغلب النواب الأكراد فى المجلس الوطنى الكبير خرجوا لتركيا لأسباب شخصية وانهم لا يمثلون سوى أنفسهم و أكد السير برسى كوكس للجانب التركى فيما يشبه التهديد ان الحكومة البريطانية تحتفظ لنفسها بحرية العمل التامة فيما يخص خط الحدود الذى قد تطالب به امام عصبة الأمم إذا أحيلت المشكلة إلى عصبة الأمم . ونتيجة لهذا التناقض فى المواقف فقد فشل مؤتمر القسطنطينية وكان رأى الجانب التركى ان إصرار بريطانيا على عدم فصل الموصل من العراق يناقض اتفاقية سايكس ـ بيكو التى أعطت الموصل إلى فرنسا ، وكان الرد البريطانى ان تلك المعاهدة وقعت فى وقت ان كانت روسيا حليفا للدولتين وان بريطانيا حين قبلت هذا فإنها قبلته حتى لا تكون مناطق نفوذها متاخمة للأراضي الروسية أما وقد خرج الروس من الحرب فقد عادت الموصل إلى وضعها الطبيعى كجزء من العراق و أكد كوكس فى نهاية كلامه ان الحد الشمالى لولاية الموصل لم يحدد أبدا بل كان دائم التغيير لأنه لم يكن حدا فاصلا بين دولتين مستقلتين.  وفقا لهذا الموقف فلم يكن هناك مناص من الالتجاء إلى عصبة الأمم بعد ان انصرمت مدة الشهور التسعة التى كانت مقررة للتوصل إلى اتفاق بطريق التفاوض فيما قررته معاهدة لوازن . ولكن فى هذا الأثناء فقد تم عام 1922م توقيع معاهدة تحالف بين العراق وبريطانيا اعترفت فيها بريطانيا بالعراق مملكة مستقلة تحت الانتداب وفى إبريل من العام التالى تم توقيع بروتوكول نص على انتهاء المعاهدة السابقة عندما يصبح العراق عضوا فى عصبة الأمم خلال لربع سنوات وفى مارس 1924 وقعت أربع اتفاقيات ملحقه بالمعاهدة أوقعت أعباء مالية جسيمة على العراق رفض المجلس التأسيسى الموافقة عليها إذا لم تسوى مشكلة الموصل .    وعندما تأخر تصديق المجلس على المعاهدة والاتفاقيات الملحقة وطالب أعضاؤه بتعديلها لوح الجانب البريطانى ان هذه المطالبة ستكون بمثابة رفض للمعاهدة مما ينذر بأوخم العواقب على مشكلة الموصل ، مما أدى إلى حث الملك فيصل لأعضاء المجلس على الموافقة على المعاهدة الذين وافقوا عليها بالفعل يوم 10 يونيه عام 1924م . وقبل اقل من شهر وفى 6 أغسطس عام 1924 وجهت الحكومة البريطانية رسالة إلى سكرتير عام العصبة أحالته فيها إلى الفقرة الثانية من المادة الثالثة من معاهدة لوازن وتطلب منه بناءا على هذه الفقرة إدراج القضية فى جدول أعمال مجلس العصبة التالى .
وفى 30 سبتمبر قرر مجلس العصبة تشكيل لجنه لفض المشكلة وتقديم تقرير عنها وقد تشكلب اللجنة من ثلاث شخصيات ، مجرى وسويدى وبلجيكى يعاونهم عدد من الخبراء والسكرتيرين . قامت بزيارات إلى كل من لندن وأنقرة ثم قامت بجولة فى ولاية الموصل ثم وضعت تقريرا مطولا استعرضت فيه مختلف جوانب القضية العنصرية والتاريخية والاقتصادية والعسكرية والسياسية وخلصت من ذلك إلى ان الحجج المهمة خاصة الاقتصادية والجغرافية وعواطف أغلبية السكان تميل لتأييد جميع الأراضي الواقعة جنوب خط الحدود الذى تضمنته الخريطة البريطانية والذى عرف بخط " بر وكسل " على ان يؤخذ فى الاعتبار رغبات الأكراد بتعيين موظفين أكراد فى المحاكم والمدارس وان تكون اللغة الكردية اللغة الرسمية فيهما . وان يبقى العراق تحت الانتداب لمدة خمسة وعشرين عاما.
وفى 16 ديسمبر عام 1925 قرر مجلس العصبة بعد استشارة محكمة العدل الدولية بنفاذ تعيين خط الحدود بين تركيا والعراق . وبعد ذلك جرت مفاوضات بريطانية ـ تركية تراوحت فيها الوسائل البريطانية بين الأغراء والتهديد خاصة وأنها كانت مدعومة بقرار عصبة الأمم وانتهى الأمر بتوقيع معاهدة ثلاثية بين كل من العراق وبريطانيا وتركيا لتسوية الخلاف . وتضمنت هذه المعاهدة ثلاث فول هى :
v   الفصل الأول : خاص بالحدود وقد تمت الموافقة على خط " بر وكسل " مع إدخال تعديل خفيف عليه تنازلت العراق بمقتضاه عن طريق وبضعة أميال مربعة وتشكلت لجنه مشتركة لتتولى عملية ترسيم الحدود على الطبيعة .
v   الفصل الثانى : متصل بتامين منطقة الحدود وتقرر بموجبة أن يراعى الطرفان مقتضيات حسن الجوار وأن يتعاونا فى القضاء على النهب والتعديات مما يحدث من العصابات المسلحة وأن تشكل لجنه دائمة من الطرفين لتقوم بتنفيذ أحكام هذا الفصل .
v   الفصل الثالث : حصص لأحكام متفرقة كان أهمها تعهد الحكومة العراقية بالتنازل عن 10% من كل عائداتها من شركة النفط التركية التى أصبحت تسمى بشركة النفط العراقية لمدة خمس وعشرون سنة .  وتضمن هذا الفصل أيضا فى أحد مواده البحث فى جنسية الأشخاص المقيمين فى الموصل وتمكنهم من اختيار الجنسية التركية اذا ما رغبوا فى ذلك .
وبصفة عامة فقد ساعد على إنهاء هذه الأزمة عدة أسباب أهمها :
1)  ان الأزمة بين البلدان لم تستغرق وقتا طويلا يتراشق خلاله الطرفان بالاتهامات ويتبادلان الهجمات مما كان له الأثر على الرأى العام فى إي من البلدين .
2)  ان بريطانيا كانت الطرف الآخر من الأزمة اكثر من الشعب أو الحكومة العراقية فهى كانت تتفاوض وتهدد وتغرى يدفعها إلى ذلك سعيها للاحتفاظ بالبترول العراقى اكثر مما يدفعها الحرص على مصالحة
3)  ان القضية كانت بالنسبة للجانب التركى تعتمد على الادعاءات التاريخية اكثر مما تعتمد على حماية الأقلية فى المنطقة المتنازع عليها ، فقد اثبت تقرير اللجنة إلى عينتها عصبة الأمم القلة النسبية لعدد الأتراك الموجودين فى هذه المنطقة .
4)  ان حكومة أنقرة لم تخرج من القضية خالية الوفاض فقد حصلت على 10% من عائدات نفط المنطقة ولفترة قصيرة من الزمان ولقد كان الصراع على النفط يمثل لب القضية .
** فضلا عن ذلك فكان للطرفان مصالح مشتركة بالإضافة إلى النفط من هذه المصالح المشكلة الكردية فان الأكراد يتوزعون بالأساس بين البلدين وكان مطلوبا التعاون بين الحكومتين حتى لا تتحول الطموحات القومية الكردية إلى خطر يهدد الوحدة الإقليمية لأي من الجانبين هذا بالإضافة إلى المصالح المائية العراقية مع تركيا بحكم ان الروافد تنحدر من المرتفعات الواقعة فى الأراضي التركية . قد أدرك الجانبان كنة هذه المصالح ولذلك بادروا بتوقيع المعاهدة .
   
  

1ـ الخاتمة

لقد اتسمت العلاقات العربية التركية على مر العصور بالصراع السلمى وغير السلمى إبداءا من حيث كان الترك مجموعة من القبائل تنتشر فى شمال شرق آسيا وشمال غرب آسيا ( الترك المشرقين والترك المغربين ) حيث اتسمت العلاقة مع الترك المشرقين بالصراع الدائم طوال الحكم الإسلامي أما الترك المغربين فاتسمت العلاقة بالصراع ثم الغلغل فى الكيان العربى والإسلامي ولكن ارتبط وجود الترك فى الخلافة بالدسائس والفتن كما ارتبط ظهورهم كقوة مؤثرة فى الخلافة العباسية بالعصر العباسى الثانى والذى اتسم بالضعف والتشرزم وكان من بين أسباب ضعفه وجود الترك فى السلطة حيث كان مقتل اكثر من خليفة عباسى على أيديهم . ولكن هذه العلاقة سرعان ما تتطورت مع ظهور الدولة العثمانية التى كان لها أطماعها التوسعية على حساب العرب وأيضا كان من أهدافها ارث الخلافة العباسية وأخذت راية الدفاع عن الإسلام ضد دار الكفار ولذلك فقد حرصت على الأخذ بالمذهب السنى والدفاع عنه مما أعطاها ثقل وشعبية لدى أغلبية المسلمين وهذه الشعبية وضعتها فى موقف المدافع عن مصالح المسلمين ضد الأطماع الغربية ومن اجل ذلك دخلت فى صراع مع البرتغاليين والأسبان .
وحديثا فقد اتسمت علاقة الترك مع العرب بالصداقة الهادفة إلى قيادة الشرق الأوسط ومن اجل ذلك بذلت تركيا جهود نشطة لتعزيز سياسة شرق أوسطية بين جيرانها العرب مناسبة لمصالح حلف الأطلنطي التى تمثله فى المنطقة ولكن هذه السياسة لاقت فشلا ذريعا لأنه لا تركيا ولا ناصحوها الغربيون فهموا طبيعة التحولات الاجتماعية والسياسية التى كانت تجد مكانها فى آسيا وأفريقيا .
وبصفة عامة يمكن استخلاص  اكثر من نتيجة من خلال السرد التاريخى السابق للعلاقة التركية العربية خلال المراحل التاريخية المختلفة ولكن ما يهمنا التأكيد عليه هو ان الترك على طول مراحل العلاقة مع العرب كانوا يهدفون إلى تأكيد وجودهم وريادتهم وأحقيتهم فى قيادة المشرق ومن اجل هذا دخلوا فى صراع طويل مع العرب ودخلوا فى تحالفات تضمن لهم ذلك الهدف .



[1]-  سعيد عبد الفتاح عاشور ( دراسة تاريخية عن التعارف الأول بين العرب والترك ) موضوع مقدم ضمن الجزء الأول من كتاب ( العلاقات العربية التركية ، من منظور عربى ) المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، معهد البحوث  و الدراسات العربية ، 1991م ، ص 43:23

[2]- سعيد عبد الفتاح عاشور ( دراسة تاريخية عن التعارف الأول بين العرب والترك )  مرجع  سابق ص 41:34

[3] - سعيد عبد الفتاح عاشور ( دراسة تاريخية عن التعارف الأول بين العرب والترك )  مرجع  سابق ص 41 :53
[4]- احمد عبد الرحيم مصطفى( دراسة تاريخية عن العرب فى ظل الرابطة العثمانية) موضوع مقدم ضمن الجزء الأول من كتاب ( العلاقات العربية التركية ، من منظور عربى ) المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، معهد البحوث  و الدراسات العربية  ، 1991م، ص150:115

[5]- احمد نورى النعمى ( السياسة الخارجية التركية بعد الحرب العالمية الثانية ) رسالة ماجستير منشورة ، دار الحرية للطباعة ، بغداد ، 1975م ،  ص279:  289
[6]- احمد نورى النعمى ( السياسة الخارجية التركية بعد الحرب العالمية الثانية ) مرجع سابق ص 231:228
[7]- المرجع السابق ص 232
[8]- جلال عبد الله معوض ( صناعة القرار فى تركيا والعلاقات العربية، التركية ) مركز الوحدة العربية ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1998م ،ص 246:237

[9]- جلال عبد الله معوض ( تطور العلاقات التركية ـ الإسرائيلية فى التسعينات ) سلسلة بحوت سياسية ، القاهرة ، جامعة القاهرة ، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، مركز البحوث والدراسات السياسية ،1996م ، ص 41

[10]- احمد نورى النعمى ( السياسة الخارجية التركية بعد الحرب العالمية الثانية ) مرجع سابق   ص288:  295

[11]- يونان لبيب رزق ( دراسة تاريخية عن العلاقات العربية التركية فيما بين الحربين العالميتين ) موضوع مقدم ضمن الجزء الأول من كتاب ( العلاقات العربية التركية ، من منظور عربى ) المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، معهد البحوث  و الدراسات العربية  ، 1991م، ص145:133

هناك تعليق واحد: